الدكتور جمال صيام يكتب : الاختيار المر بين “الفرخة” البرازيلية و “هياكل ” الفراخ المصرية وقضية الصناعة
الاختيار الذي نتحدث عنه يتعلق بالأغلبية العظمي من المستهلكين الذين نسميهم تأدبا “ذوي الدخل المحدود” وهم فى الحقيقة الفقراء الذين يرزحون تحت خط الفقر أو علي مستقرون علي هامشه مرشحون للسقوط تحته عند أى ارتفاع فى الأسعار.
وهو اختيار بين الدجاجة البرازيلية (المجمدة) بسعر 65 جنيه للكيلو و البديل المتاح (من صنف الدواجن) بنفس السعر تقريبا هو “هيكل” الدجاجة المصرية . ونحن هنا نتحدث بافتراض أن الدواجن البرازيلية ليست دواجن توفيق عبد الحي أي قريبة انتهاء الصلاحية أو تم التلاعب بتاريخ انتهاء الصلاحية.
الاختيار المنطقي لهذا المواطن الغلبان هو شراء الفرخة البرازيلية . لماذا إذن هو اختيار “مر”؟ الإجابة هي أن اتجاه المستهلكين كلية إلي الدواجن المستوردة (المجمدة) علي حساب الدواجن المحلية يعني فى نهاية المطاف وعلي المدي البعيد القضاء المبرم علي صناعة الدواجن المحلية ، وإغلاقها بالضبة والمفتاح وبعدها يتم الاعتماد كليا علي الواردات. ويجرنا ذلك إلي السياسة المطلوب تبنيها بالنسبة للقطاع الداجني فيما يتعلق بالإنتاج والواردات. هذا ما نحاول إلقاء المزيد من الضوء عليه فيما يلي.
صناعة الدواجن المصرية : الأهمية والهشاشة
صناعة الدواجن فى مصر بما تشتمل عليه من مزارع ومفرخات ومجازر ومحلات تجزئة (الفرارجية) ومصانع العلف والخدمات المتصلة بها ، صناعة ضخمة من حيث الاستثمارات (تقدر بنحو 80 مليار جنيه) ويعمل بها نحو 3 مليون عامل مابين عمالة دائمة ومؤقتة ، ومنتجاتها الرئيسية لحوم الدواجن والبيض، وهما مصدران رئيسيان للبروتين الحيواني الرخيص نسبيا بالمقارنة للحوم الحمراء.ومع ذلك فهي صناعة منكشفة للمخاطر الخارجية إلي حد كبير نظرا لاعتمادها اعتمادا شبه كلي علي الأعلاف المستوردة (الذرة الصفراء وفول الصويا) ، مع ملاحظة أن العلف يمثل نحو 70% من تكلفة إنتاج الدجاجة ، بينما تشكل أجور العمالة وبعض المستلزمات الأخري ال 30% الباقية. فالحقيقة أنه علي عكس ما يردده بعض المسؤولين أن مصر تحقق الاكتفاء الذاتي فى الدواجن، نستطيع القول أن نسبة الاكتفاء الذاتي فى الدواجن لا تتجاوز 30% وهي تعادل القيمة المضافة التي تحققها الصناعة. الخلاصة أنها صناعة بقدر ما هى مهمة واستراتيجية بقدر ماهى معرضة للمخاطر والتقلبات الإنتاجية والسعرية ، لاسيما وأنها تعتمد فى الجزء الرئيسي منها علي المزارع الصغيرة التي تفتقد الكفاءة والتنظيم المؤسسي الجيد.
أساس المشكلة :التعارض بين مصلحة المستهلك ومصلحة المنتج
تظهر المشكلة هنا بسبب التعارض بين مصلحة المستهلك (الحصول علي السلعة بسعر معقول حتي لو كان من المستورد الأقل تكلفة وسعرا) وبين مصلحة المنتج (تحقيق ربج معقول يضمن له الاستمرار فى الإنتاج ) واختارت الدولة عموما التحيز لمنتجي الدواجن ( والذين لديهم دائما لوبي قوي فى أروقة اتخاذ القرار) متبنية سايسة حمائية فرضت حظرا علي استيراد الدواجن، وهكذا تمتع المنتجون بهذه الحماية محققين أرباحا تعزي فى أغلبها إلي الحماية وليس إلي الكفاءة ، وهي من ثم علي حساب المستهلكين والاقتصاد عموما. واستم هذا الحال إلي جاءت اتفاقية الجات/ منظمة التجارة العالمية فى 1995 التي حظرت علي الدول الأعضاء استخدام الحظر فى التجارة الخارجية ، بينما سمحت للدول استخدام التعريفات التجارية ، أو حتى الحظر ولكن لأسباب فنية (المتبقيات مثلا) أو لأسباب دينية . واختارت الدولة أن تفرض رسوما (تعريفة) مانعة تقريبا لاستيراد الدواجن الكاملة بشرط أن تكون مذبوحة حلال (علي الطريقة الإسلامية)، مع حظر استيرد أجزاء الدواجن ( وهى رخيصة جدا فى أمريكا والبرازيل) بحجة صعوبة التأكد من الذبح الحلال.
السؤال التاريخي: نفتح الباب للواردات (علي مصراعيه) أم نغلقه تماما أم نتركه مواربا؟
الإجابة علي هذا السؤال ، من قبل متخذ القرار، يتقرر فى ضوئها إلي حد بعيد مصير الصناعات الحساسة للصدمات الخارجية مثل صناعة الدواجن علي النحو الذي أسلفناه.وفى هذا الصدد ، هناك ثلاث سياسات، الأولي تتمثل فى فتح الباب لواردات الدواجن علي مصراعيه عن طرق تخفيض التعريفة الجمركية والقيود غير التعريفية Non-tariff barriers إلي أدني حد ممكن ، وتؤدي هذه السياسة بالقطع إلي اجتياح الدواجن المستوردة للأسواق المصرية وطرد الدواجن المحلية وما لذلك من آثار مدمرة علي الصناعة، أما السياسة الثانية فهي علي عكس السياسة الأولي وتتمثل فى غلق الباب أمام الواردات عن طريق فرض الحظر عليها أو فرض تعريفة مانعة أو فرض قيود غير تعريفية ، ومن شأن هذه السياسة انفراد الدواجن المحلية بالسوق كمصدر وحيد للعرض فى مواجهة الطلب المنزايد، ومن ثم سيادة أسعار عالية تزيد عن السعر العالمي ، محققة أرباح مرتفعة للمنتجين حتي مع انخفاض الكفاءة الاقتصادية.أما السياسة الثالثة فهي تقع بين السياستين السابقتين ، وتتمثل فى ترك باب الواردات مواربا ، وإعطاء الفرصة لتغذية السوق بالوردات بكميات يتم تحديدها وتتحقق عن طريق تعريفة محددة غير مانعة.
واقعة من كواليس اتخاذ القرار:لعبة شد الحبل وصراع المصالح
بمناسبة السؤال السابق ” نفنح الباب أم نغلقه ، أذكر أنني شهدت فى منتصف التسعينيات ، وكنت أحد مستشاري وزارة التجارة والتموين ، قيام اختلاف حاد فى كواليس وزارتي التموين والزراعة بين جبهتين أو قل وجهتي نظر أخري يقودهما رجلان قويان، الأول أستاذنا الدكتور جويلي رحمة الله عليه وكان لمن لا يعرفه ، وزيرا لامعا للتموين والتجارة الداخلية ثم وزيرا للتجارة والتموين فى أوائل ومنتصف التسعينيات ، وكانت له شعبية جارفة فى الشارع المصري وينظر إليه باعتباره نصير الفقراء،وكان يري عدم تبني التعريفة المانعة (100%) وتبني تعريفة منخفضة تسمح باستيراد كميات معقولة تعمل من ناحية علي تهدئة الأسعار المحلية وتمكين شرائح من ذوي الدخل المنخفض علي شراء الدواجن، ومن ناحية أخري لا تحدث ضررا بليغا بالمنتجين (حماية جزئية) وفى نفس الوقت تحفزهم لتحسين كفاءتهم ورفع تنافسيتهم مع المستورد ، ثم إنه يري فى الحماية الكلية تدليلا زائدا للمنتجين علي حساب الفقراء وذوي الدخل المحدود. ، فى النهاية، كان عليه بحكم منصبه، مسؤولية توفير الدواجن (والسلع الغذائية عموما) للمستهلك بأسعار معقولة سواء كان مصدرها الإنتاج المحلي أو المستورد .الجبهة الثانية كان يقودها أستاذنا د. ممدوح شرف الدين رحمة الله عليه وكان مستشارا قويا هو الآخر لأستاذنا الدكتور يوسف والي وزير الزراعة حينئذ، رحمة الله عليه ، وفى نفس الوقت كان بمثابة رئيس للوبي منتجي الدواجن ، وكان مؤيدا بطبيعة الحال للرسوم والتعريفة المانعة للاستيراد بهدف حماية صناعة الدواجن .علي أي حال لم يشأ أستاذنا د. جويلي تصعيد الأمر فاستقر الوضع فى النهاية لصالح لوبي المنتجين حتي اللحظة الراهنة بما حدث فيها من اختناقات كبيرة فى سوق الدواجن، اضطرت الدولة إلي استيراد نحو 40 ألف طن من الدواجن البرازيلية .
توصيات لمتخذي القرار:
· اتركوا الباب مواربا أمام واردات الدواجن لكي تشغل شطرا هامشيا فى عرض الدواجن وليكن فى حدود 20%، حتي ولو أدي ذلك إلي استبعاد المزارع منخفضة الكفاءة،
· دعوا الفقراء يتذوقون اللحوم الحقيقية للدواجن بدلا من “هياكلها”، والذين يدعون الفقراء إلي مقاطعة الدجاجة البرازيلية إما يفتقدون إلي الواقعية والمنطق ، أو يفتقدون حس العدالة الاجتماعية. وبالمناسبة هي دعوة حصرية للفقراء ، إذ أن ذوي الدخل المرتفع لا يستهلكون الدواجن المجمدة أصلا ، فهي فى السياق الاقتصادي يمكن أن يطلق عليها “سلعة الفقراء” أو سلعة “دنيا” Inferior good ، الطلب عليه يتناقص كلما ارتفع الدخل.
· بالمقابل ،علي أصحاب المصلحة ٍStakeholders فى صناعة الدواجن البدء فورا فى عملية تطوير وتحديث الصناعة ورفع كفاءتها مؤسسيا وتكنولوجيا حتي تصبح منافسة للواردات وقادرة علي مزاحمتها فى السوق المحلي دون الحاجة إلي حماية تعريفية ، ويتم ذلك عن طريق تنظيم المنتحين، وخاصة صغارهم ، فى إطار تعاونيات قوية للدواجن ورفع كفاءة سلاسل القيمة للدواجن بحيث تستبعد تجار الجملة والسماسرة وتربط مرحلة الإنتاج (المنتجين ،أو بالأحري تعاونياتهم) مباشرة بمرحلة التجزئة.
· اتخذو الإجراءات والسياسات التى من شأنها التقليل من حجم الفجوة العلفية ومن ثم تخفيف اعتماد الصناعة علي واردات الأعلاف عن طريق التوسع فى إنتاج الذرة الصفراء وفول الصويا واتباع السياسات السعرية والدعم اللازمة فى هذا الشأن.
دكتور جمال صيام
أستاذ الاقتصاد الزراعي
كلية الزراعة جامعة القاهرة