الدكتور جمال صيام يكتب : المزارعون المصريون والحرب الروسية
لم تكد أزمة كورونا تؤول إلي مراحلها النهائية بما أحدثته من آثار عميقة علي الاقتصاد العالمي والاقتصاد المصري حتي انفجرت الحرب الروسية الأوكرانية ، فى 24 فبراير 2022 ، والتي ظهرت آثارها سريعا شكلت أزمة غذاء عالمية جديدة ، نظرا لأن الدولتين المتحاربتين يساهمان بنصيب جوهري في الإنتاج العالمي والصادرات العالمية من السلع الغذائية الأساسية . فهما يساهمين مجتمعتين بنحو 28% من الإنتاج العالمي من القمح و 29% فى الشعير و 15% فى الذرة و 75% من الإنتاج العالمي لدوار الشمس.كما أن روسيا تعتبر مصدرا رئيسيا للأسمدة الكيماوية.
وقد تصاعت بشدة الأسعار العالمية لهذه السلع بصفة خاصة والسلع الغذائية بوجه عام. تتأثر مصر بهذه التطورات باعتبار أنها تستورد كل السع الأساسية ، فهى تشغل المركز الأول فى العالم فى واردات القمح والمركز الرابع فى واردات الذرة ، وتستورد نحو 90% من استهلااكها من البذور الزيتية. ومن ناحية أخري مصر أحد مصدري الأسمدة الأزوتية التي ارتفعت أسعارها عالميا بصورة غير مسبوقة متأثرة بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي الذي يشكل المكون الرئيسي فى تكلفة إنتاج الأسمدة الأزوتية.
تتشابك هذه التطورات مع كل من الحكومة المصرية والمزارعين فى أسعارتوريد القمح وأسعار الذرة والأرز وأسعار الأسمدة الأزوتية . بينما كانت أسعار القمح العالمية تتجه للصعود بقوة قبل أربعة شهور من الحرب الروسية الأوكرانية ،وبسبب ارتفاع أسعار النفط وارتباك سلاسل الإمداد العالمية ، أعلنت الحكومة قى سبتمبر الماضي وقبل بداية الزراعة ، سعرا قطعيا للتوريد 820 جنيه للإردب بزيادة 100 جنيه عن سعر الموسم السابق.
ومع استمرار تصاعد الأسعار بسبب الحرب وتجاوزها 1000 للإردب أعلنت الحكومة زيادة فى السعر “حافز” قدره 65 جنيه ليصل السعر إلي 885 جنيه لدرجة نظافة 23.5.وهو السعر الذي يستلمه المزارعون للإردب المورد علي أساس معدل توريد 12 إردب لكل فدان قمح. وصل سعر الاستيراد الآن إلي 495 دولار للطن (الطن يساوي 6.67 إردب) وإذا أضيف إليها 50 دولار تكلفة الشحن والنولون ، وبذلك يكون سعر الإردب المعادل 1470 جنيه وبفرق يبلغ 595 جنيه عن سعر التوريد للقمح متوسط درجة النظافة. يعتبر هذا الفرق من الناحية الاقتصادية بمثابة “ضريبة ضمنية”،وتقدر نسبة الحمية الإسمية (سعر التوريد مقسوما علي السعر العالمي) فى هذه الحالة ب 0.6 مما يعني أن نسبة الضريبة الضمنية 40%. وتقدر هذه الضريبة لفدان القمح بنحو 7000 جنيه. وباعتبار إجمالي الكمية المستهدف توريدها تبلغ 40 مليون إردب ( 6 مليون طن) ، يكون إجمالي التحويلات من المزارعين لصالح الحكومة 23.8 مليار جنيه.
بالنسبة للذرة الشامية ، أعلنت وزارة الزراعة أنها تعمل علي، وتروج بين المزارعين لإتمام تعاقدات (زراعة تعاقدية) بين المزارعين (منتجي الذرة) من جانب واتحاد منتجي الدواجن وشركات العلف من جانب آخر علي أساس سعر 6000 جنيه للطن كسعر ضمان يمكن زيادته عند تسليم المحصول عند الحصاد إذا ارتفعت الأسعار العالمية للذرة ، ويتضمن العقد أيضا علي التزام المشتري بدفع هذا السعر حتي فى حال انخفاض السعر العالمي.
يلاحظ أن سعر الذرة المستورد حاليا (الأرجنتيني والبرازيلي) 8700 جنيه للطن ، وليس من المحتمل بأي حال أن ينخفض السعر إلي مستوي سعر الضمان المذكور وقت حصادر الذرة فى أغسطس أو سبتمبر القادم.فلماذا يحدد سعر الضمان منخفضا عن السعر العالمي الحالي بأكثر من 30%؟.هل هي طريقة لحصول اتحاد منتجي الدواجن علي الذرة المحلية بأسعار رخيصة علي حساب المزارعين؟.
كان من الأفضل لفكرة الزراعة التعاقدية أن يكون سعر الضمان أقرب كثيرا للسعر العالمي الحالي حتي تدعم تقة المزارع فيها. وقد يربط كثير من المزارعين بين سعر التوريد للقمح وابتعاده سلبا عن سعر استيراده ، وبين ابتعاد سعر ضمان الذرة عن سعر استيراده. من المؤكد أن الزراعة التعاقدية سوف تكتسب ثقة كبيرة لدي المزارعين فى حالة واحدة فقط هي أن يحصل منتجو الذرة علي السعر الحقيقى لإنتاجهم وهو السعر المعادل للسعر العالمي World price equivalent .
فى المقابل ، يستهلك المزارعون المصريون (لكل المحاصيل المزروعة بما فيها القمح والذرة) نحو 4 مليون طن من الأسمدة الأزوتية تدعمها الدولة بنحو 16 مليارجنيه (السعر المدعوم لشيكارة اليوريا 250 جنيه مقابل 450 جنيه السعر الحر) ، وهذا بمثابة “دعم ضمني” Implicit subsidy ، وليس دعما مباشرا ، وتتحمله الدولة فى صورة غاز طبيعي تقدمه الدولة لمصانع الأسمدة بسعر مدعوم نحو 5.75 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية بينما السعر العالمي يصل إلي نحو 10 دولارات.يلاحظ أن نصيب زراعات القمح والذرة تحصل علي نحو 30% فقط من جملة كمية الأسمدة المدعومة بمعدلات 3 شكاير يوريا للفدان من القمح فى مساحة كلية نحو 3.4 مليون فدان ، 5 شكاير يوريا للفدان من الذرة (بيضاء وصفراء) فى مساحة كلية نحو 2.5 مليون فدان. وعلي ذلك يحصل مزارعو القمح والذرة علي نحو 5 مليار جنيه من جملة دعم الأسمدة ، بينما تحصل الزراعات الأخري بما فيها الزراعات عالية القيمة مثل الخضر والفاكهة والنباتات الطبية والعطرية. بل يحصل مصدروا هذه المنتجات علي دعم حكومي مقابل صادراتهم فى حدود نحو 600 مليون جنيه.
يقوم منتجو القمح عن طيب خاطر بتوريد إنتاجهم مقابل سعر التوريد المذكور ، وقد بلغ التوريد حتي الآن نحو 2.5 مليون طن.ومع ذلك يقترح البعض أن يحصلوا علي الردة الناتجة عن كميات القمح الموردة.
ولما كان القمح المورد يتم استخدامه فى صناعة الخبز البلدي بدقيق مستخلص بنسبة 82% ، أما النسبة الباقية (18%) فتمثل إنتاج الردة التي تستخدم كعلف حيواني.أي أن كل إردب (150 كيلوجرام) ينتج 27 كيلوجرام ردة كمنتج ثانوي بجانب الدقيق (123 كيلوجرام) كمنتح رئيسي.ولما كان سعر الردة في السوق المحلية الآن نحو 6000 جنيه للطن ، تكون قيمة الردة الناتجة عن الإردب نحو 158 جنيه.وكأن لسان حال المزارعون يقول “خذوا الدقيق واعطونا الردة نواجه بها أزمة الأعلاف وارتفاع أسعارها حتي اضطر بعضنا إلي بيع حيواناته” .فهل تراه حكومتنا الموقرة مطلبا منطقيا ومعقولا قابلا للتحقيق؟.
د.جمال صيام
أستاذ الاقتصاد الزراعي- جامعة القاهرة