أخبارخدماتمجتمع الزراعةمحاصيلمقالاتمياه ورى

الدكتور جمال صيام يكتب : ضخ استثمارات هائلة في البنية التحتية المائية مع إهمال إصلاح المؤسسات الزراعية خطأ جسيم

التحديات التي تواجه الزراعة المصرية

تواجه الزراعة المصرية تحديات هائلة تتعلق بأربعة عوامل رئيسية، تشمل التغيرات المناخية، والمشروعات الإثيوبية بما فيها سد النهضة والسدود الإثيوبية الكبرى الأخرى المزمع تشييدها على المجري الرئيسي للنيل الأزرق ومشروعات التوسع الزراعي المروي، والزيادة السكانية، والأزمات والصدمات العالمية. وتنعكس هذه التحديات على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي في مصر في المدي القصير والمتوسط والطويل. الوضع الغذائي الراهن يعاني من الهشاشة بدرجة عالية، إذ تعتمد مصر على الواردات من الأسواق العالمية في 60% من احتياجاتها الغذائية وبصفة خاصة من السلع الأساسية، القمح والذرة وزيوت الطعام والفول والعدس والسكر. كما تتقلص طاقة إنتاج الغذاء في ظل ما تعانيه مصر من محدودية شديدة في كل من الأرض والمياه، تتفاقم بمرور الزمن مع الزيادة السكانية التي يتوق أن تصل بعدد السكان إلى 180 مليون نسمة في 2050، وحينئذ يتضاءل نصيب الفرد من الأرض الزراعية إلى 0.05 فدان ونصيب الفرد من المياه إلى 300 متر مكعب سنويا بافتراض استبعاد أثر كل من التغيرات المناخية والمشروعات الإثيوبية. وفى حال إدخال هذين العامين في الاعتبار، فإن الأمر يصبح أكثر سوءا ولكن بدرجات متفاوتة تتوقف على طبيعة السيناريو موضع التحليل.

على أن أكثر السيناريوهات كارثية على الإطلاق هو ذلك الذي تتواكب فيه التغيرات المناخية مع ملء وتشغيل السدود والمشروعات الإثيوبية (في ظل عدم وجود اتفاق قانوني ملزم) مع حالة الجفاف الممتد علي الهضبة الإثيوبية، وذلك كله في ظل الزيادة السكانية المشار إليها. مثل هذا السيناريو ينطوي علي تدهور الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي بشكل خطير. ومن ناحية أخري فإن تزايد اعتماد مصر على الواردات الغذائية يعرض امنها الغذائي إلى الانكشاف على مخاطر التقلبات في أسواق الغذاء العالمية الناشئة عن عوامل مختلفة مثل ازمة الحرب الروسية الأوكرانية الجارية الآن وسبقتها أزمة وباء كوفيد-19 التي بدأت في 2020، وأزمات الغذاء العالمية مثل أزمة 2008، وذلك يعني حدوث ثلاث أزمات عالمية أثرت وتؤثر سلبا بصفة خاصة على الدول المستورد الصافية للغذاء ومنها مصر.

الاستثمار في البنية التحتية في المياه

لمواجهة أزمة المياه وضعت الدولة خطة طموحة للموارد المائية والري بتكاليف إجمالية تبلغ 900 مليار جنيه للفترة 2017-2037 وتغطي المحاور المختلفة للخطة، مشروعات تحلية مياه البحر (134 مليار جنيه) ومشروعات معالجة مياه الصرف الزراعي والصحي والصناعي، ومشروعات تبطين وتأهيل الترع الرئيسية (80 مليار متر مكعب)، ومشروعات تحويل الأراضي المزروعة بنظام الري بالغمر إلي نظم الري الحديثة (التنقيط والرش). سوف توفر مشروعات تحلية مياه البحر نحو 5 مليارات متر مكعب سنويا بحلول 2037. وتحقق مشروعات التبطين وفرا في فواقد شبكة الري يبلغ نحو 3 مليارات متر مكعب سنويا. وبالنسبة لتحويل نظام الري بالغمر إلى نظام الري الحديث فمن المفترض أن تحقق وفرا في مياه الري يبلغ نحو 15 مليار متر مكعب سنويا. ومع ذلك فإنه سوف ينشا عن تحويل نظام الري بالغمر إلى الري الحديث تقلص كمية مياه الصرف الزراعي في الموازنة المائية من 21 مليار متر مكعب في الوضع الراهن (2020) إلى نحو 3 مليارات متر مكعب سنويا، وهي تلك الكمية التي تتولد من مساحة 2 مليون فدان ستظل تزرع بنظام الري بالغمر المطور في شمال الدلتا وتخصص لزراعات الأرز، وذلك لكي تكون مانعا لتسرب مياه البحر لأراضي الدلتا.

المؤسسات الزراعية والمائية

القطاع الزراعي هو المستهلك الرئيسي للمياه، ومن ثم فإن رفع كفاءة استخدام المياه Water use efficiency (كمية ما ينتجه المتر المكعب الواحد من المحصول) يحقق بصورة أخري أهداف القطاع المائي فيما يتعلق بترشيد استخدام المياه. وفى هذا الصدد تلعب المؤسسات الزراعية والمائية دورا مهما لا يقتصر على دور المياه كعنصر إنتاجي وإنما يمتد إلى سلسلة القيمة الزراعية برمتها والتي تشمل مراحل ما قبل الإنتاج ومرحلة الإنتاج ومرحلة التوزيع ومرحلة التصنيع ومرحلة التصدير ومرحلة التجزئة. وهناك ثلاث ركائز تحدد مستوي الكفاءة في سلسلة القيمة الزراعية هي، التنسيق الأفقي (بين الفاعلين عبر كل مرحلة على حده) Horizontal coordination، والتنسيق الرأسي (بين المراحل المتتالية) Vertical coordination، والبيئة الداعمة Enabling environment.

ويعتمد التنسيق الأفقي بصورة رئيسية على منظمات الفاعلين على مستوي كل مرحلة، ويتقرر مستوي التنسيق على كفاءة هذه المنظمات. وعلى سبيل المثال من المفترض أن تقوم الجمعيات التعاونية الزراعية بدور التنسيق الأفقي بين المنتجين الزراعيين، إلا أن ذلك لا يحدث في الواقع نتيجة لضعف التعاونيات والذي يعزي إلى أسباب عديدة من أهمها تقييد القانون لأنشطتها وضعف قدرات كوادرها الإدارية والفنية وغيرها من الأسباب. وبالنسبة للتنسيق الرأسي في السلسلة، فيعتمد على آليات أهمها الزراعة التعاقدية Contracting farming التي تربط بين المنتجين الزراعيين (او منظماتهم) وبين الفاعلين في المراحل الأدنى في السلسلة (أو منظماتهم)، كما يمكن أن يتم التنسيق أيضا من خلال مجلس سلعي يضم ممثلين لكافة الفاعلين في مختلف مراحل السلسلة. ويعمل التنسيق الراسي على ضمان تدفق السلعة بانتظام ودون حدوث اختناقات أو فوائض من مرحة الإنتاج (المرحلة الأعلى upstream) إلي المراحل الأدنى downstream) وبالمثل تدفق التمويل والمعلومات (السوقية والفنية) من المراحل الأدنى إلي مرحلة الإنتاج.

وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الزراعة التعاقدية ليست مجرد تعاقد مسبق علي بيع المحصول (أشبه بالبيع الآجل) وإما ينبغي أن يشمل تدفق التمويل والمعلومات بأنواعها من المشتري (المصنع أو المصدر أو التاجر الكبير) إلي المنتج الزراعي. أما البيئة الداعمة فتشمل السياسات والقوانين، الإرشاد، البحث والتطوير، التمويل، وتنمية الأعمال.

وتعتبر خدمات الإرشاد الزراعي أمرا بالغ الأهمية في ظل ظروف ظاهرة سيادة الحيازات المزرعية الصغيرة وضعف القدرة المالية للحائزين الصغار ومن ثم ضعف نفاذهم إلى الخبرات الفنية من القطاع الخاص.

كما أن للبحث والتطوير دورا مهما في تحسين الأصناف النباتية والسلالات الحيوانية والممارسات الزراعية، والتفاعل مع مشكلات المنتجين الزراعيين. وعلى ذلك فأفضل صيغة مؤسسية هي تلك التي تتضمن جمعية تعاونية قوية تستطيع التعاقد مع تجار المدخلات الزراعية الموثوقين وتستطيع تنظيم عملية الإنتاج الزراعي، وتستطيع التعاقد مع المصنعين والمصدرين وتجار الجملة والسلاسل التجارية، وتستطيع كذلك الاقتراض من البنوك لصالح أعضائها. وبالنسبة للإرشاد الزراعي فينبغي توفير خدماته لكي تعم كل الفئات الزراعية وكل الأنشطة المحصولية والحيوانية والمائية والمناخية.

وفي هذا الصدد يقترح أن يتم تعيين أربعة مرشدين متخصصين بكل قرية، مرشد محاصيل، مرشد إنتاج حيواني، مرشد مائي، مرشد مناخ، ولدي كل من منهم جهاز لوحي Tablet ومنصة إلكترونية متصلة بالمراكز والمحطات البحثية ذات الصلة، ومجهزين بالمعدات الضرورية.

ولما كان عدد القري الرئيسية نحو 4500 قرية، فيعني ذلك أن العدد الكلي للمرشدين يبلغ 18000 مرشد، ويقدر إجمالي رواتبهم بنحو 1.3 مليار جنيه سنويا تمثل 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي. يضاف إلى هذه الصيغة المؤسسية تطبيق قانون التأمين الزراعي.
التركيز على الاستثمار في البنية التحتية المائية مع إهمال البنية المؤسسية خطأ جسيم
بينما يجري العمل علي قدم وساق فيما يتعلق بمشروعات محطات تحلية مياه البحر ومحطات معالجة مياه الصرف الزراعي والصحي ومشروع تبطين وتأهيل الترع، ومؤخرا البدء في تحويل زراعات الري بالغمر إلي نظم الري الحديث، فإن الإصلاحات المؤسسية لم تنل الاهتمام الذي تستحقه، الأمر الذي ينطوي على خطأ جسيم. أولا: يترتب على إهمال الجوانب المؤسسية إهدار اقتصادي وفيزيقي كبير، وهو ما يعني في نهاية المطاف تخفيض كفاءة استخدام المياه. ومن أمثلة الإهدار الاقتصادي أنه يمكن الحصول علي ناتج زراعي أكبر من نفس القدر من المياه إذا ما تمت إدارة العملية الزراعية بطريقة سليمة في إطار المرحلة الأولي من سلسلة القيمة الزراعية، وذلك من حيث كمية ونوعية مدخلات الإنتاج المستخدمة ونوعية الممارسات الزراعية مقارنة بالممارسات الزراعية السليمة (Good agricultural practices , GAP ) ، ويقدر الفاقد الاقتصادي في هذا الصدد بنحو 30% علي الأقل من الإنتاجية الممكنة Potential productivity .

وبالنسبة للفاقد الفيزيقي فتتفاوت نسبته من محصول/منتج إلي آخر، إلا أنه مرتفع بصورة عامة نتيجة لسوء حالة التعبئة والتداول والنقل والتبريد والتخزين في مراحل ما بعد الحصاد. وتصل نسبة الفاقد في الحبوب إلي 10% وفى البطاطس إلي 22% وفى الخضر والفاكهة سريعة التلف عموما إلي 35%. وهذه الفواقد المرتفعة تعزي في نهاية الأمر إلي ضعف سلاسل القيمة للمحاصيل الزراعية والي يعزي بدوره إلي ضعف المؤسسات الزراعية. وإذا كان الاستهلاك الكلي من الحبوب يبلغ نحو35 مليون طن سنويا، فهناك فاقد يبلغ 3.5 مليون طن سنويا، مما يعني إهدار أكثر من 3.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا، لو أردنا الحصول علي ما يعادلها من تحلية مياه البحر لبلغت تكاليفها الاستثمارية أكثر من 90 مليار جنيه (لاحظ أن خطة الموارد المائية والري تتضمن، كما سبق الإشارة، إنفاق نحو 134 مليار جنيه للحصول علي 5 مليارات متر مكعب من تحلية مياه البحر). ثانيا: بمعيار العائد/التكاليف، يعتبر الإنفاق علي الإصلاح المؤسسي أعلي جدوي اقتصادية من الإنفاق علي البنية التحتية، ولكن ذلك بطبيعة الحال لا يعنى أن الأول يغني عن الأخير، بل المطلوب هو توليفة من النوعين من الإنفاق.

إن تخصيص نحو 18 مليار جنيه سنويا، تعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي، للإنفاق علي المؤسسات الزراعية بما فيها المؤسسة البحثية والإرشادية ومنظمات المزارعين وغيرها من المؤسسات الزراعية يمكن أن تؤدي إلي عوائد زراعية ومائية تفوق العوائد المترتبة علي انفاق 100 مليار جنيه علي مشاريع البنية التحتية المائية. وهو مبلغ في نهاية الأمر يعادل تكلفة محطة واحدة لتحلية مياه البحر أو لمعالجة مياه الصرف الصحي والزراعي.

ملاحظة أخيرة، إن استمرار حالة الضعف المؤسسي الزراعي في مواجهة التحديات والمخاطر الهائلة التي تواجه الإنتاج الزراعي، أمر ينطوي على خطأ جسيم، إذ يعرض الأمن الغذائي المصري للتدهور الشديد فضلا عن انكشاف مصر لمخاطر خارجية جمة ، وأكثر من ذلك يعرض جزءا كبيرا من الاستثمارات المنفذة في البنية التحتية المائية للضياع.


د. جمال صيام
أستاذ الاقتصاد الزراعي- جامعة القاهرة





مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى