منذ طفولتي وانا معجب بشجرة الخروع الكبيرة في دوارنا. كنت احب هذه الشجرة كثيرا رغم اني لااعرف اي شيء عن فوائدها غير انها توفر الظل وتتخذها عشرات العصافير موطن لها في عز الحر.
ولكن اكثر ما كان يدهشني فيها تلك الثمار الخشنة التى تحتوي بذور رائعة الجمال وكأنها مجوهرات ثمينه. كنت ازرع هذه البذور وارويها واتابع نموها في مرحلة ما قبل ذهابي الى المدرسة وكان امرها محير لي. كنت دائما اسأل نفسي عن سر تحول البذور من كتلة صماء الى نبته ذات اوراق جميلة، فاين اختفت البذرة وماذا حدث لها في ظلام التربة الذي لا اراه.
قررت ان اسأل البادرة نفسها فجلست احدث هذه البادرة الصغيرة فكلانا مازال في مرحلة الإنبات والنمو وسألتها كيف خرجت للحياة كل هذه الاوراق ذات اللون الاخضر الجميل من البذرة وهل مرت تحت التراب بمرحلة ولادة مثلنا نحن البشر ؟
اجابتني البادرة وهي تتمايل مع نسمات الهواء وقالت انها نبتت من البذرة بطريقة غاية في النظام والدقة في التوقيت والنظافة دون اوجاع وآلام ودماء الولادة في البشر.
طلبت منها بشغف الطفل الذي يبحث عن اجابة لكل ما يراه ان تشرح لي كيف حدث انباتها وكيف خرجت من طين الارض بكل هذا الجمال والنظافة.
ابتسمت البادرة وأدارت ورقتيها لتواجه اشعة الشمس فزادتها بهاء وقالت: الإنبات يا عزيزي تحكمه جينات وعوامل وراثية مخزونة في البذرة كما تحكمه ايضا عوامل خارجية عديدة ولا بد ان تتوافق كل هذه العوامل لكي تبدا عملية الانبات التى تشبه الولادة لديكم.
قلت لها من فضلك ايها البادرة الجميلة احترمي طفولتي فلا استطيع استيعاب كل ما قلت ولا اعرف حتى معني كلمة جينات وعوامل خارجية وداخلية فرفقا بى واشرحي لي كيف تحولت من بذرة صامته الى بادرة يانعة رشيقة ببساطة.
ضحكت البادرة من غزلي فيها بصوت مرتفع حتى سمعها رفاقها من البادرات وانتبهوا لحوارنا مما اشعرني بالخجل.
قالت لكي تنتقل البذرة الى مرحلة الإنبات لا بد ان يتوفر الماء الكافي وتتوفر درجة الحرارة الملائمة
قلت لها وما دور الماء والحرارة في الإنبات أيها البادرة الجميلة
قالت تمتص البذرة الماء لتنتفخ وتمزق القصرة الصلبة التى تحميها ليخرج الجنين الى الحياة، كما ان الماء هو الوسط الذي تعمل به الإنزيمات التى تحلل الغذاء المخزن في البذرة واللازم لتغذية الجنين.
قلت لها وهل بالبذرة جنين مثل جنين البشر
قالت نعم بها جنين يتكون من جذر صغير جدا وساق قصير جدا ولو كان الجنين غير سليم لا يحدث الانبات، وللجنين اب وام يرث صفاته من كلاهما، اما الحرارة المناسبة فهي التى تسمح بعمل الانزيمات واذا لم تكن مناسبة لا يحدث الانبات حتى ولو توفر الماء.
قلت لها هذه معلومات جديدة لي ولكن كيف خرجت بهذا الجمال من الطين ورماد التربة.
قالت ان ساقها واوراقها مغطاة بطبقة شمعية رقيقة تغطي بشرتها فتمنع التصاق ذرات التراب او قطرات الماء بها فتخرج الاوراق بهذا الجمال من التربة.
سألتها كم يستغرق الوقت لكي يحدث تمام الإنبات
قالت هذا يعتمد على نسبة الرطوبة في التربة ودرجة الحرارة وعمق البذرة في التربة فكلما زاد عمق البذرة كلما طالت فترة الانبات وقد لا تظهر البادرة فوق سطح التربة بالمرة لو زاد العمق عن المفروض.
قلت لها وهل يمكن ان يتعطل الانبات ويموت الجنين تحت التربة
نظرت لي وقد بدا على اوراقها التأثر وقالت ان الكثير من البذور تموت بمجرد انباتها او بعد انباتها بقليل ولا تكمل حياتها تماما كما يحدث في امراض الاطفال لدي البشر.
قلت لها لقد تأثرت ايتها البادرة بهذه المعلومات المحزنة فكيف هربت انت من الموت ؟
قالت ان البذور عامة عندما تزرع لا بد من حمايتها من الفطريات والبكتيريا والحشرات المتربصة بها في التربة، فعندما تمتص البذرة الماء وتنتفخ وتتمزق القصرة ويبدا الجنين بخطواته الاولى بالجذير الذي يمتد لأسفل في التربة بحثا عن الماء والغذاء ثم تتبعه بقليل الريشة التى تنمو لاعلى بحثا عن الضوء في ظلمة التربة الموحشة. في هذه المرحلة يكون الجنين ضعيف وهش وتستطيع الكائنات الدقيقة التهامه مالم يسرع في الانبات ويكون خلايا قوية تصد المهاجمين. التأخر في الانبات يعرضنا للخطر خاصة اذا كانت التربة مشبعة بالماء.
قلت لها وكيف تتم حماية البذرة من مهاجمة الاعداء
قالت هناك حماية ذاتية ولكنها لا تكفي غالبا في التربة الملوثة بالممرضات فتعامل البذور بمبيدات تحميها فترة الانبات فقط ثم تتحلل.
قلت له شكرا عزيزتي البادرة الجميلة فقد سعدت بكل ما تعلمته اليوم منك واتركك في رعاية الله لتواصلى نومك واتمنى ان اراك شجرة عن قريب.
ابتسمت البادرة وهي تستدير قليلا نحو الشمس التى تغير موقعها ونحن نتحاور فالاوراق في حركة مستمرة للبحث عن الضوء الذي يدير مصانع انتاج الطاقة بها منذ اللحظة الاولي للظهور فوق سطح التربة. وفهمت ان النباتات في عمل مستمر منذ لحظة الانبات حتى الحصاد فلا تعرف معني للاجازة او الراحة او الكسل.
الصورة مع الخيل والاخوة في الدوار الحقيقي الذي دار فيه الحوار