فى مقالتي السابقة بعنوان”ملاحظات علي هامش الحوار الوطني بشأن الزراعة والأمن الغذائي” ، ابديت نوعا من التحفظ علي العنوان الذي سوف يدور فى إطاره الحوار الوطني (الثلاثاء القادم) وهو “دور الدولة فى توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي والتسعير..القروض الزراعية والديون”.
وقد راجعني بعض الاقتصاديين ومنهم الأستاذ الدكتور شريف فياض الأستاذ بمركز بحوث الصحراء ،وهو تلميذي سابقا (أثناء دراسته للدكتوراه) وصديقي حاليا ، وهو فى نفس الوقت أحد قيادات حزب التجمع الذي يشارك فى الحوار الوطني ، ومع أنني لست حزبيا إلا أننا تجمعنا سويا فكرة السوق الاجتماعي Social market.
ووجه المراجعة هنا يتعلق بمنطوق “توفير الدولة لمستلزمات الإنتاج” وكذلك فيما يتعلق بطريقة تسعير المحاصيل الزراعية.
وهذا يجرنا إلي تحليل ما يقرره الدستور فى هذا مع مقارنته بما يجري تطبيقه من سياسات علي أرض الواقع وتاثير هذه السياسات علي الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي.
السعر العالمي المعادل
الكاتب يتبني وجهة النظر القائلة بأن المزارعين يجب أن يحصلوا علي معادل السعر العالمي World price equivalent للمحصول، وهذا يتأتي بأن نحصل علي سعر الاستيراد (فوب) وصال الاسكندرية بالدولار (أو بأي عملة أجنبية حسب المنشأ) ونضربه فى سعر الصرف (قيمة الدولار بالجنيه) ثم تضاف قيمة التعريفة الجمركية (لا تتجاوز 2% بالنسبة لمعظم المحاصيل الأساسية) ، ثم تضاف تكاليف النقل من الاسكندرية إلي وسط الدلتا (مثلا) كموقع ممثل لمزارع الوجه البحري.
وتستند وجهة النظر هذه إلي أن الدولة تتبني منهجية اقتصاد السوق Market economy ، صحيح أن الدستور (2014) لم يذكر ذلك صراحة ، إلا انه أشار إلي أهم مقومات السوق الحر فى الفصل الثاني : المقومات الاقتصادية ، مادة 27 “….ويلتزم النظام الاقتصادي بمعايير الشفافية والحوكمة،ودعم محاور التنافسية وتشجيع الاستثمار، والنمو المتوازنجغرافيا وقطاعيا وبيئيا، ومنع الممارسات الاحتكارية ، مع مراعاة الاتزان المالي والتجاري والنظام الضريبي العادل ، وضبط آليات السوق…..”
المادة (29) وتناقضها مع المادة (27) :
فيما يتعلق بالزراعة فقد نصت المادة (29) علي “الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني…وتلتزم الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني، وشراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح، وذلك بالاتفاق مع الاتحادات والنقابات والجمعيات الزراعية، ….. وذلك كله علي النحو الذي ينظمه القانون”. هذه الصياغة تستند إلي فكرة سيطرة الدولة علي النشاط الاقتصادي Centrally-controlled economy وهي الفكرة التي تخلت عنها الدولى منذ اوائل التسعينيات مع برنامج التحرر الاقتصادي.
فعلي أرض الواقع لا تستطيع الدولة “توفير المستلزمات” لآنها ليست منتجا أو عارضا لها Input supplier ثم بأي سعر سوف تبيع الدولة المستلزم، هل تحدده هي إداريا؟
وبالنسبة لشراء المحاصيل ،كيف تكون الدولة “مشترية لكل المحاصيل الأساسية وهي الحبوب والسكر والبذور الزيتية والبقول،وهل عليها أن تقوم بتسويق ما تشتريه ؟
ويقول النص “الشراء بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح”!! هذا ما كان يحدث تماما فى مرحلة ماقبل التحرر الاقتصادي ،ثم أين هي الاتحادات والنقابات والجمعيات الزراعية التي يفترض أن تتفاوض معها الحكومة لتحديد “السعر المناسب”
وعلي ذلك فإن صياغة المادة (29) الداعية إلي السوق التنافسي مع ضبط آليات ،تتناقض بوضوح مع صياغة المادة (27) الداعية إلى قيام الدولة بنفس الأدوار التي كانت منوطة بها خلال فترة سيطرة الدولة علي النشاط الاقتصادي فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات .
صيغة منضبطة (مقترحة) للمادة (29) :
لست هنا بصدد اقتراح تعديل دستوري لحل هذا التناقض ،لكن بما إن الحوار الوطني معني فى الأساس برسم السياسات المستقبلية فإن الصيغة المنضبطة للمادة (29) ربما تكون علي النحو التالي : “تلتزم الدول باتخاذ الإجراءات والآليات اللازمة لتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي ،كذا ولتمكين المزارعين من تصريف محاصيلهم وبيعها بأفضل الأسعار، وتلتزم فى هذا الإطار باتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط آليات الأسواق الزراعية ، ومنع تعرض المزارعين من الاستغلال والممارسات الاحتكارية ، كما تلتزم بقيام اتحادات ونقابات ومنظمات قوية للمزارعين تكون قادرة علي دعم قدرتهم التفاوضية فى مواجهة تجار المستلزمات والمحاصيل”.
مأزق السياسات الزراعية :
لا يمكن لآي محلل أن ينسب المأزق الحادث فى السياسات الزراعية إلي التناقض الدستوري السابق الإشارة إليه.ذلك لآن السياسات الزراعية التي جري تطبيقها خلال العقود الثلاثة الماضية إنما هي خليط بين سياسات تستند إلي حد كبير إلي السوق الحر، وسياسات وإجراءات وتدابير إدارية.
وسوف نركز فى هذا المجال علي السياسة السعرية وعما إذا كانت الأسعار التي يتقاضاها المزارعون لمحاصيلهم مطابقة للأسعار العالمية المعادلة أما أنها أقل وتنطوي علي ضرائب ضمنية.
وبالنسبة للقمح علي سبيل المثال، ظلت الدولة تستلمه من المزارع بأسعار مدعومة بنسبة أحيانا إلي 30% وذلك حتي عام 2016 .
أما فى المواسم من 2017-2021 فقد التزمت الدولة بأسعار توريد تعادل تقريبا سعر القمح المستورد الروسى، وفى عام 2022 بلغ سعر التوريد 880 جنيه للإردب (ليس معروف علي أي أساس تم تحديده) ، وهذا كان أقل من السعر المعادل بأكثر من 400 جنيه مما اضطر وزارة التموين إلي فرض حالة التوريد الإجباري (12 إردب عن الفدان القمح) مما كان له أثر سلبي علي كمية التوريد المستهدفة ،وكذلك علي المساحة المزروعة قمحا فى الموسم التالي ، فقد انخفضت المساحة من 3.65 مليون فدان (فى موسم 2022) إلي 3.2 مليون فدان فى الموسم الحالي (2023) ، حيث اتجهت هذه المساحة المقتطعة إلي زراعة البرسيم.
ويتم التوريد فى الموسم الحالي علي أساس 1500 جنيه للإردب (أيضا ليس معروفا علي أي أساس تم تحديده)، وهو أقل من السعر المعادل بنحو 200 جنيه للإردب.وبمقارنة سعري التوريد فى الموسمين علي أساس القيمة الدولارية (السعر الحقيقي) يتضح ان السعر قد انخفض من نحو 56.4 إلي 48.9 دولار بنسبة انخفاض نحو 15%.
يلاحظ أنه بفرض تطبيق صيغة المادة (29) من الدستور بالنسبة للسعر (تكاليف الإنتاج + هامش الربح) ، فسوف يكون سعر التوريد أقل بكثير من سعر التوريد الحالي .
ويعزي هذا التفاوت إلي جزءا جوهريا من التكاليف لا يحسب علي أساس دولاري Non-tradable بينما العائد الكلي محسوب بأكمله علي أساس دولاري ، مما يجعل لتخفيض قيمة الجنيه دورا مهما فى هذه التقديرات.
المحصلة :
فى المحصلة لابد أن تكون هذه النقاط موضع اهتمام الحوار الوطني وإقرار التوصيات اللازمة فى شأن الساسات الزراعية عموما والسياسات السعرية خاصة فى ضوء هذا التناقض الدستوري.
كما يجب أن تكون الحكومة شديد الحرص والدقة فى تحديد أسعار التوريد ، وليس علي أساس غير مفهوم كما هو حادث ، الأمر الذي يؤدي إلي خسائر كبيرة سواء لفاتورة الواردات أو للأمن الغذائي.والدليل علي ذلك أن النقص فى مساحة القمح بحوالي 400 ألف فدان قى الموسم الحالي ، تعني نقصا فى الإنتاج الكلي من القمح بأكثر من مليون طن سوف يتحتم تعويضها باستيراد نحو 350 مليون دولار.
وحتي لو كان المبلغ القتطع من منجي القمح (حوالي 11 مليار جنيه كضرائب ضمنية) يساوي قيمة القمح المستورد ، فإن من المؤكد أن القرار الاقتصادي الصحيح علي جميع المستويات يتمثل فى إعطاء السعر العادل للمنتجين.
دكتور جمال صيام
أستاذ الاقتصاد الزراعي
جامعة القاهرة