الدكتور الوليد آدم يكتب : سد النهضة سؤالاً سودانياً
ظلت إثيوبيا تتنقل بين خانتي الممانعة غير المنطقية والاستجابة اللحظية بشأن سد النهضة الذي تبنيه، حتى أربكت حسابات دولتي مصبّ نهر النيل، السودان ومصر، وجعلتهما تتخذان من التفاصيل الفنية والهندسية وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، كثيراً ما كانت تجرفهما بعيداً عن مجرّد التفكير في أمر السيادة الوطنية. ظلت إثيوبيا تراوغ، حتى وجدت نفسها مُرغمةً على الاستجابة لموجهات الهيئات العلمية والعالمية التي قضت بضرورة الاستعانة بمكتب استشاري، يلزمه النظر في ما تقدمه الدول الثلاث من مستندات، أي أن يقوم بدور المُحَكِّم. وعندما أقرّ المكتب الاستشاري الفرنسي، في تقريره الاستهلالي، بضرورة إجراء دراسة فنية، رفضت إثيوبيا، بحجة أنه تدخّل في أمر سيادتها الوطنية. أيَّ سيادة وطنية هذه التي تَدَّعيها إثيوبيا، وهي تشيد صرحاً كهذا في أرضٍ سودانيةٍ تاريخاً وحضارةً ونضالاً وفكراً وموروثاً؟
لقد استغلت إثيوبيا انعدام الثقة بين القيادات السياسية لدولتي المصبّ، وضعف التنسيق بين شعبيهما، وانعدام الرؤية الاستراتيجية عند كليهما في ما يخصّ الشأن الأفريقي، فغدت تُعَوِّل على إحداث الفُرقة بين دولتي المصب، حتى أصبحت إحداهما شريكاً (مصر) والأخرى وسيطاً (السودان)، فكان أن أحدثت اختراقاً جعلها تظفرُ بالموقف، لولا أن انبرى لها نفر من العلماء الغيورين من أقطار العالم كافّة، فبيَّنوا هشاشة موقفها الرافضِ تقديم دراسةٍ فنيةٍ متكاملة، وفضحوا موقفها المتعنت في شأن الوساطة السياسية، ذلك الموقف المكابر، المغالي، والمجافي، والمُعرِض عن مجرّد الإشارة إلى أي موضوعٍ يتعلق بملكية الأرض، ذلك أن الحكوماتِ السودانيةَ وقعت في الشرك (أو المطب)، إذ ناقشت جدوى المشروع الاقتصادية، عوضاً عن التفكّر في مشروعيته السياسية. الملاحظُ أن كل السدود في إثيوبيا تسمّى بأسماء أقاليمها، ما
“أيَّ سيادة وطنية تَدَّعيها إثيوبيا، وهي تشيد صرحاً كهذا في أرضٍ سودانيةٍ تاريخاً وحضارةً ونضالاً وفكراً وموروثاً؟” عدا هذا السد سُمِّي “سدّ النهضة”، إمعاناً في التزوير، وحجباً لأحقية بني شنقول في ملكية الأرض. يستهين الإثيوبيون بالسودانيين هذه الأيام إلى درجةٍ تجعلهم يصرحون بأنهم سيشيّدون ميناءً في أرض سودانية. هل يا تُرى سيسمونها ميناء أكسوم (أم) ميناء أبي سينيا؟
تسعى هذه المقالة إلى معالجة هذا الخطأ المفاهيمي وذاك الإجرائي، كما لا تُغْفِلُ الجانبين، الفني والمهني، بمحاولتها التعرضَ لتاريخ الشعوب التي قطنت هذه الأرض، ولم تغير ولاءها، على الرغم من الحيفِ الذي أصابها من الحكومات الوطنية السودانية. ولا غرابة، فهؤلاء أحفاد ملوك سلطنة الفونج الذين لا تُعْوِزهُم عزةٌ ولا يغريهم اعترافٌ من أحد. كل ما يطلبونه هو عدم استخدام السياسيين قضيتهم مُسَوَّدة لإحداث توازنات سياسية/ اجتماعية قد تضحي بالشأن السيادي الوطني.
قبل التعرّض هنا للحقائق الهندسية والعملية، وراء سدّ النهضة، وتبيان أنها واهية في أحسن تقدير، وخاطئة على أسوأ تقدير، يلزم شرح للقارئ الدوافع السياسية والاجتماعية التي جعلت إثيوبيا تُقدم على هذه المغامرة. إثيوبيا دولة مأهولة بالسكان (120 مليوناً)، محدودة المصادر، تمتاز بأحادية جغرافية، إذ يبعد سهلها المثمر على تخوم السودان (دار بني شنقول) عن عمقها الجبلي المُجْدِب، ما جعل قادتها عبر التاريخ يتبعون سياسةً توسعيةً، لا يعتمدون فيها على المدافعة، قدر اعتمادهم على الملاطفة، ولا سيما مع السودان، لأنهم يعرفون قدرة أهله على التصدّي حالما يكونون متحدين، مستبصرين وموقنين بحقائق التاريخ.
إهمال الرعيل الأول قضايا الهامش، كان سببه الانشغال الذي أثر سلباً في قدرتهم على ترتيب الأوليات وإنكار حقوق الأقليات. أما الأجيال التي أعقبت، فمنها من أضاع الإحداثية، لجهله بعاملي الجغرافيا والتاريخ، ومنهم من امتهن السياسة وسيلةً للارتزاق الذي دفعه تدريجاً نحو الخيانة، وتغليب مصلحة دولة أجنبية على مصالح بلده.
وباستعراض جغرافية المنطقة على عُجالة، تمثل ديار بني شنقول شريطاً حدودياً عرضه 250 – 300 كيلومتر داخل الحدود السودانية، مُبْتَدَأُها من “الجِكو” حتى حدود إريتريا. حاز الإثيوبيون هذه المنطقة بسبب إهمال السودانيين، وعدم إدراجهم كل القضايا الحدودية في بنود التفاوض مع المستعمر البريطاني. ومن جاؤوا لاحقاً، تقلدوا دعاوى أيديولوجية لم تبرح أن
“يستهين الإثيوبيون بالسودانيين هذه الأيام إلى درجةٍ تجعلهم يصرحون بأنهم سيشيّدون ميناءً في أرض سودانية”أدخلتهم في خضمّ الصراع المحمومِ بين الكتلتين، الشرقية والغربية، فسبب انحيازُهم إلى الكتلةِ الشرقية في دعم الغرب لإثيوبيا التي لم تتوان مذئذ في سحب بساط الريادة تدريجاً من تحت أقدام السودانيين.
وللتنويه، إثيوبيا لا تزدهر إلا في لحظات الاضمحلال في السودان، الذي بدأ بتلبس الرئيس جعفر النميري أوهام “الدولة الدينية”، وخضوعِه لموجهات فئةٍ ضالة نَحَت بالسودان منحىً أفقده وجهته الحضارية، وأضاع هُويته دونما مبرر، فالاعتزاز بالهُوية العربية الإسلامية أو الأفريقية المسيحية لا يستلزم مطلقاً انسلاخ المرء عن جلدته وتخليه عن موروثه ومرتكز اعتزازه. على النقيض، فالحضارة الإسلامية اكتسبت منعتها بالقدرة على إحداث التدامج بين الثقافات المختلفة. الشاهد أن تلك كانت لحظةً اهتبلتها إثيوبيا للمطالبة بنقل الاتحاد الأفريقي من الخرطوم إلى أديس أبابا التي لم تكن حينها غير أرضٍ جبليةٍ تفترشها بيوت الصفيح، تفتقر إلي أبسط مقوّمات الحياة، وتعاني من انعدام طبقةٍ وسطى، يمكن أن تكون نواة للمدنية، وتسهم في انتعاش المؤسسات الديمقراطية المدنية.
لم يمضِ عقدان حتى انقلب الحال، فأصبحت هذه صورة السودان، بعد أن أُهين العلماءُ، وهُجِّر النجباء، واحتكر الإنقاذيون الاقتصاد والتجارة، وهيمنوا على الفضاء العمومي بأكمله، ما سبّب هجرة رأسِ المال، ولجوء التجار، صغارهم وكبارهم، إلى تهريب البضائع، والمحاصيل، والثروة الحيوانية، إلى دول الجوار. والمضحك المبكي أنك تجد إثيوبيا مدرجةً كواحدة من أهم مصدّري الصمغ العربي، وهذا محصولٌ هي لا تنتجهُ أصلاً، لكنه سوءُ السياسات الذي أرغم المنتجين على تهريب بضاعتهم عبر الحدود. ليس هذا فقط، بل كانت ملجأ المستثمرين الأجانب الذين كانت وجهتهم الطبيعية السودان إلى إثيوبيا. هذا تنافسٌ مشروعٌ، وإنْ غيرَ متكافئ، أمَّا محاولتُهم تزويرَ الخرائط والتطاولَ على حقوق الآخرين، فأمرٌ دونه خرط القتاد.
باقتصارهم الحديثَ عن السد على مناحٍ فنية صِرفة، يرتكب السياسيون السودانيون خطأً جسيماً، يتبدّى في تمثلهم الأرض وكأنما هي مُسطح هندسيّ يخلو من التضاريس الثقافية والوجدانية،
“الاعتزاز بالهُوية العربية الإسلامية، أو الأفريقية المسيحية، لا يستلزم مطلقاً انسلاخ المرء عن جلدته، وتخليه عن موروثه ومرتكز اعتزازه”والوديان الاجتماعية والإنسانية، علماً أنَّه وادٍ يعتمل في عُمقه عبقٌ وإرثٌ لشعب من أعرق شعوب الأرض، إن لم يكن من أغناها إرثاً وأجملها معنىً. بمحاولتهم بناء سدٍّ في قلب بُومْبُدي (مَحلية قُبا)، التي تُعتبر ُعاصمة دولة الفونج (منطقة حمدان أبو شوك)، فإنَّ الإثيوبيين لا يكرّسون فقط لسلطة سياسية/ عسكرية، وقد نجحوا في التمدد عرضاً والولوج إلى العُمق قسراً وسراً، كما فعلوا في الفشقة وقمبيلا، بل يتحدَّون السودان، منذرين بإزالة حضارة وادي النيل بالكلية، وقد أغرتهم غفلة السودانيين، إن لم نقل جهالة قادتهم السياسيين. وهم إذ يعتمدون أساليب ناعمة، مثل المكر والخداع، وأخرى خشنة شَمِلت الحرق، القتل، التهجير القسري، الترويع، فإنهم هذه المرّة لن يتورّعوا، بل سيعمدون إلى إغراق ديار بني شنقول، لأنهم أيقنوا أنهم، مهما فعلوا، سيظلون غرباء عن قبائل بني شنقول الذين لا تربطهم بهم وشائج قربي أو صلات أرحام، فأهل هذه الديار هم الفونج، عماد الدولة السودانية قديماً وحديثاً.
من يقول إِن الإثيوبيين تحرّضهم إسرائيل يهمل حقيقة تاريخية أساسية، أن هنالك عقدة ظلت تعتمل في صدور الإثيوبيين، منذ هزمهم الفونج وأزالوا عاصمتهم أكسوم، قبل قيام دولة إسرائيل بقرون. وهم بعد لم يَرْعوُوا، لكنهم سيعرفون كيف يقفون عند حدودهم، إذا ما عزمت الدولة السودانية يوماً على دعم جبهة تحرير بني شنقول دعماً حيوياً، يشمل الدعم اللوجستي والإعلامي والمالي، وليس فقط العسكري، فالدفاع عن ديار بني شنقول هو دفاعٌ عن الأمة السودانية جمعاء. الخطر الذي يتهدد السودان من الغرب أو الشمال أو الجنوب يتضاءل أمام الأخطار التي تتهدده من الشرق، يشمل ذلك تغول إِريتريا السافر، أو الجنوب الشرقي.
وبينما يؤكد الشق المدني من الحكومة السودانية الانتقالية، متمثلاً في رئيسها عبد الله حمدوك ورفاقه، رغبته في تحقيق السلام، فإنَّ تحالفات العسكر مع بعض دول المحور التي باتت تهيمن على المشهد السياسي السوداني حالياً ربما جرفت سفينة السودان بعيداً عن شاطئ الحرية، وذلك بعد أن استبانت، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، معالم المشروع الوطني النهضوي الذي يتطلب قيامه توافر مجموعة من العوامل، أهمها: الخروج عن الوصاية الإقليمية، والنظر بعين فاحصة وبديهة ناصحة لمصلحة البلاد العليا، التي تتطلب قضاء المشورة داخلياً (في شكل مؤتمر دستوري) من دون الامتثال لأي موجهات خارجية. إجراء حوار وطني حقيقي، حيوي وشفاف، مع “الممثلين الشرعيين” للجماعات المتضرّرة في كل السودان، التي ظلت تقاوم الأحادية الفكرية والعقدية للدولة المركزية طوال السنين العجاف التي أعقبت خروج المستعمر، وما زالت مستهينة بوابل الرصاص، ومستخفّة ببراميل المتفجرات، في سبيل تحقيق كرامتها الإنسانية. تكوين برلمانٍ (جهازٍ تشريعيٍّ)، تُشْرف على اختياره لجنةٌ قوميةٌ ذات تأهيل أخلاقي وفكري وحضور ثقافي ومجتمعي، يُنْتَدب له نُقباء حرصاء على مصلحة البلاد، ولهم في البوادي مِهاد، ويكون بمثابة الحاضنة الأساسية للقوى الثورية العازمة على نبذ العنصرية والجهوية، والمعتمدة جُلاً وأصلاً، على الأطر الحديثة في تكوين مجتمع مدني وديمقراطي.
يتطلب تحقيق هذه البنود الثلاثة وجود قيادة مدنية ذات جسارة فكرية وبراعة روحية تصونها عن الخضوع للمؤثرات، تستفزّها لتجاوز الثنائيات، وتستحثها على تخطي العقبات التي أوردت السودان موارد الهلاك واستنفدت قواه في حروبٍ قوّضت قواه، وكادت تقضي على هيبته بين الأمم. يكفي ما تعرّضت له شعوب الهامش من مهانة، وما عايشته جماهير المدن من مسغبة، وها هي نذر الحرب تطاولهم جميعاً من جرّاء العجز الذي أصاب قادتهم، ومن جرّاء الشلل الذي عانته مطاياهم فأقعدها عن مبلوغ مراميها، وقد كانوا قادرين على درء الفتنة وتدارك الأمر بالحكمة والرحمة التي تشربت بها التربة السودانية الغنية بالأقوال والمعارف والأفعال. يكفي ما أصاب الناس من ضنك في شأن دنياهم، فيجب الّا يُفتنوا في دينهم بجعله مَعْرِضاً يستغله بعضهم في محاولة شراء الوقت، فلم يعد هناك وقت، ووراء الأكمة ما وراءها. عليه، يجب تأمين الجبهة الجنوبية الشرقية، التي منها دفق النيل الأزرق وانهمار مجاريه، بالتوافق مع قيادة الحركة الشعبية – شمال، ومع كل القيادات الأخرى، ولا سيما النابذة للفرقة والحاضّة على قيمة التماسك الوطني. تعتمد فاعلية القيادة السياسية المدنية للفترة الانتقالية على قناعتها وقدرتها على التزام الرجوع إلى قوانين 1974، واستمساكها بمبدأ الديمقراطية الفيدرالية وسيلة لتحقيق التوافق والرضى بين شعوب السودان كافة. تأمين الجبهة الداخلية ضرورة لصيانة البلاد من المؤامرات الخارجية.
(نشر فى العربى الجديد )