عرضت فى هذه الزاوية الأسبوع الماضى لمحات سريعة من كتاب ” من الذى دفع للزمار؟ : الحرب الباردة الثقافية “، للكاتبة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز، ترجمة الأستاذ طلعت الشايب، وهو وئيقة عالمية تكشف الدور الذى لعبته وكالة المخابرات الأمريكية ” سى آي إيه ” أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى “السابق”، من خلال التغلغل فى المؤسسات الثقافية والإعلامية والصحف والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدنى فى أمريكا وأوروبا ودول العالم الثالث، بما فيها الدول العربية، وأشكال التمويل الذى كانت تقدمه الوكالة للشعراء والنقاد والروائيين والكتاب والصحفيين والأكاديميين ورجال الدين، ممن انخرطوا فى تنفيذ مخططاتها، ونشر رسالتها.
وبعد سقوط الشيوعية فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى تحول نشاط المخابرات الأمريكية من محاربة الشيوعية إلى محاربة الإسلام، حيث جعلت منه ” العدو الأخضر”، بزعم أنه يحمل ثقافة وقيما مناقضة ومقاومة لثقافة وقيم الحداثة الأمريكية، التى يراد فرضها على العالم كله باسم العولمة، ومن ثم نشطت آلات الدعاية الهدامة للضرب فى الإسلام من كل جانب، بأيدى رجال المخابرات ومفكريها، والزمارين التابعين لها، والعمل على تشويه هذا الدين بكل الوسائل، ودمغه بالتخلف والرجعية والإرهاب، وصولا إلى تعديله أو تغييره، أو اختراع بديل له، تبلور أخيرا فى ” الديانة الإبراهيمية “.
ومن أجل إنجاز هذا الهدف صدرت كتب ودراسات عديدة، وعقدت مؤتمرات وندوات، وأنشئت فضائيات، وكلما مر الزمن تبلورت معالم الغارة الأمريكية الغربية على الإسلام، وظهر جيل جديد من الوكلاء تميزوا بغشامة ووقاحة لم تكن لأسلافهم، الذين اعتادوا على محاربة الإسلام من وراء جدار، أما هؤلاء الجدد، الممولون فى السر والعلن، فقد انطلقوا بلا حياء يهاجمون الإسلام ورموزه من الصحابة والأئمة، ويخلطون عن عمد بين الإسلام والإرهاب، ويسخرون من الشريعة ومن السنة النبوية، ومن البخارى وكتب الصحاح، ويشوهون التاريخ الإسلامى وأبطاله وفتوحاته، ويشككون فى الأزهر وشيخه وعلومه ومناهجه وعلمائه، ووصلت الجرأة ببعضهم إلى التشكيك فى القرآن الكريم، والتبشير بالدين العلمانى الجديد الذى يجرى تصنيعه فى أمريكا.
ومنذ سنوات كشفت الدكتورة منى أبو سنة، الأستاذة بجامعة عين شمس، أنها دعيت ذات مرة مع أستاذها د. مراد وهبة ـ عراب العلمانية فى مصرـ إلى مؤتمر بأمريكا حول العلمانية والأصولية، وعندما وصلت إلى مقر المؤتمر فوجئت بمؤتمر آخر يعقد فى القاعة المجاورة، ينظمه أحد أفرع الجيش الأمريكى لبحث قواعد الإسلام الجديد، وهو ما أثار شكوكها، ودفعها للانسحاب.
ولم تفصح د. أبو سنة عما إذا كان د.وهبة قد انسحب معها أم لا، فالرجل مازال يكتب ويتحدث باللغة المراوغة نفسها التى يتدثر بها، وقد نشر فى 11 يوليو المنقضى مقالا فى “الأهرام” بعنوان ” العقل العربى وبؤسه”، ادعى فيه أن العقل المسلم توقف عن التفكير، منذ أن وئدت الفلسفة اليونانية على يد أبى حامد الغزالى، وهو مادفع الدكتورعادل القليعى رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة حلوان إلى الرد عليه فى 4 مقالات، نشرها على صفحته عبر “الفيسبوك”، أوضح فيها مكانة العقل فى الحضارة الإسلامية، وعرض أسماء بعض العلماء العرب الأفذاذ، الذين أسهموا فى بناء الحضارة الإنسانية بعلمهم وعقولهم.
وينتمى د. وهبة إلى جيل عتاة العلمانيين، الذين اعتادوا على الصيد فى أعالى البحار، أمثال حسن حنفى ومحمد أركون وطيب تيزينى وعزيز العظمة، أما أدونيس ـ 93 عاما ـ فيمثل مدرسة الصدام الصريح، التى لا ينافسه فيها سوى أمثال أحمد صبحى منصور وسيد القمنى ونوال السعداوى وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وجمال البنا، وقد صار أدونيس الآن نجما وحيدا فى الأفق، بعد أن خلت له الساحة من هؤلاء، فدخل إلى مناطق كانت محظورة عليه، رغم أنه يتعمد تشويه كل ماهو عربي وإسلامى باسم الحداثة والتنوير، لكن بركات من يدفع للزمار فتحت له الأبواب المغلقة.
ويحمل أدونيس أينما حل وصفاته السحرية، القديمة الجديدة، لينشرها على دراويشه، وأول سطر فيها أنه لا يجد بين المليار ونصف المليار مسلم مفكرا واحدا يمكن أن يضعه إلى جانب مفكرى الغرب العظام، وأنه لا أمل فى نهضة عربية إلا بالقطيعة التامة مع التراث، وإسقاط 1444 عاما من الفكر العقيم، والقطيعة التامة كذلك مع القراءة السائدة للدين، وتقديم قراءة جديدة للقرآن الكريم، تعتمد على تأويل النص ليناسب العصر وظروفه الاقتصادية والاجتماعية، والتخلص من الثلاثية التى لسنا فى حاجة إليها: الحديث والفقه والإجماع.
هذا لون من التزمير الصريح يطرب من يدفع للزمار، ويضمن لصاحبه الحصول على النفوذ والشهرة والمؤتمرات والسفريات والجوائز، ويشجع على التزمير الفاجر، الذى يطعن فى الإسلام بلغة مباشرة، ويظهر هذه الأيام فى أداء الإعلاميين والكتاب الطموحين الجامحين، الذين يبدلون أفكارهم بأسرع مما يبدلون ملابسهم، حسبما يشير الكفيل.
وقد بلغ الجموح بأحدهم إلى نشر مقال فى صحيفة ” المصرى اليوم ” يوم 4 أغسطس 2016 تحت عنوان “هل يغير المصريون دينهم للمرة الرابعة ؟ “، يمهد فيه لفكرة تحول المصريين عن دينهم “الذى لم يعد مناسبا للعصر”، إلى دين آخر، بعد أن تحولوا عن دينهم من قبل 3 مرات؛ الأولى من دين آمون إلى دين إخناتون، والثانية من إخناتون إلى المسيحية، والثالثة من المسيحية إلى الإسلام.
وسواء أكان هذا الكاتب لاعبا أساسيا فى فريق الزمارين، أو منتظرا على ” دكة الاحتياط “، فإن هذا لا يمنعنا أن نتعجب من الجرأة التى أغرته لكتابة مثل هذا المقال، والجرأة التى دفعت الصحيفة إلى نشره، حتى وإن كنا متأكدين أن سر الجرأة يكمن عند من يدفع للزمار، ومن يوفر له الدعم والدعم