إلى حد ما هدأت الاضطرابات والمصادمات العنيفة التى شهدتها العاصمة الفرنسية باريس وضواحيها فى أعقاب مقتل شاب من أصول جزائرية ( 17 عاما ) على يد رجل شرطة، أطلق عليه الرصاص بسبب قيادته المتهورة لسيارة مستأجرة يوم الثلاثاء 27 يونية الماضى، وهو الحادث الذى أدى إلى احتجاجات واسعة وأعمال عنف وشغب وسلب ونهب وحرق، قام بها مراهقون من المهاجرين وسكان الضواحى والأحياء الفقيرة، الذين رأوا أن الحادث يعبر عن رسالة عنصرية تهدد وجودهم ومستقبلهم، وتقلل من قيمتهم كمواطنين فرنسيين، وتستهين بأرواحهم.
ولعبت مواقع التواصل الاجتماعى دورا فى نشر الأخبار وتقديم رواية غير الرواية الإعلامية الرسمية، التى تميل عادة إلى تفادى إدانة الشرطة، وتقدم أعذارا لأفعال رجالها، وتسببت المواقع الاجتماعية والفيديوهات المنشورة عليها فى تأجيج غضب المجتمع ضد تهور رجل الشرطة، وفى تعميق الاستقطاب، مما أدى إلى اتساع نطاق أعمال التخريب والحرق والنهب حتى طالت المحلات والبنوك والمدارس والمرافق العامة ومقار البلديات والمراكز الثقافية والملاعب الرياضية وأقسام الشرطة، بالتوازى مع حالات إطلاق نار على الشرطة ومحاولة قتل زوجة عمدة وأبنائه وحرق منزله، وفى كل هذه الأحداث كان أغلب الفاعلين شباب غاضب غير مسيس، لا يتبنى مطالب سياسية أو اقتصادية أو فئوية، ولا يستطيع السيطرة على ردود أفعاله، أو يفكر فى حساب النتائج.
ورغم قيام السلطات الفرنسية بنشر حوالى 45 ألف رجل شرطة للسيطرة على أعمال الشغب، ورغم اعتقال مئات من المراهقين المحتجين وتقديمهم للعدالة، إلا أن الحادث وما تبعه من تطورات أصاب المجتمع الفرنسى بهزة عنيفة، ودفع المحللين السياسيين إلى إعادة النظر فى القوانين والسياسات المتبعة مع الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين غير الأوروبيين، خاصة العرب والمسلمين والأفارقة، وعلى وجه التحديد أبناء المهاجرين من أصول مغاربية، الذين يرون أن الدولة الفرنسية مازالت تتبنى سياسات عنصرية، وتتعامل معهم كما كانت تتعامل مع أجدادهم فى مستعمراتها القديمة.
وعلى عكس المتوقع اتجهت تصريحات الرئيس الفرنسى مانويل ماكرون منذ بداية الأحداث إلى التعاطف مع أسرة الشاب الضحية، وإدانة رجل الشرطة وسلوكه، كما قام بقطع زيارته الخارجية وعاد مسرعا لمتابعة التطورات المتلاحقة عن قرب، ومع ذلك فإن معظم التحليلات تعزو إليه وإلى حكومته أسباب هذا الانفجار المفاجئ للأوضاع، على أساس أن ما حدث كان رد فعل للطريقة التى تعامل بها السلطات الفرنسية مع أبناء الجاليات، وعدم تطبيق العدالة معهم، وإعطائهم الفرصة ليكونوا مواطنين طبيعيين، بلا تمييز.
ويشير أصحاب هذه التحليلات بوجه خاص إلى تكرار ثورة سكان الضواحى والأحياء الفقيرة وبيوت الصفيح نتيجة إحساسهم الدائم بالظلم الاجتماعى، وباتساع الهوة بينهم وبين المواطنين الفرنسيين ( الأوروبيين )، الذين يحصلون على تعليم جيد وفرص عمل متميزة، وأجور مرتفعة، ويعيشون فى مساكن مرفهة وأحياء نظيفة آمنة، ويتمتعون بالضمان الاجتماعى والصحى الكامل، الذى يجعل حياتهم أكثر راحة ويسرا، فى حين تتخبط حياة هؤلاء ما بين الفقر والبطالة والفوضى والقذارة، الأمر الذى أدى إلى نشأة مجتمعات موازية مهمشة، تشعر بالعداوة والحقد على المجتمع الفرنسى، وتنتظر الفرصة للانتقام منه.
يضاف إلى ذلك أن ماكرون نفسه يتبنى بالكامل وجهة نظر اليمين المتطرف فيما يتعلق بملف دمج المهاجرين، فلا يرى فى هذا الدمج غير إلغاء التعدد الثقافى والدينى والعرقى الذى تعترف به الدول المتحضرة، والعمل بكل السبل على نزع هؤلاء المهاجرين من خصوصياتهم، والتضييق عليهم فيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويقرأون ويكتبون، وإخضاع دور العبادة الخاصة بهم للمراقبة والحراسة، وإغلاق مدارسهم، وإجبارهم على قبول مفاهيم العلمانية، وتنشئة أبنائهم على أفكار مرفوضة كالحرية الجنسية والشذوذ، باسم حماية الهوية الفرنسية ودستور الجمهورية.
ويدعو اليمين الفرنسى المتطرف فى أدبياته إلى التمسك الشديد بالهوية والثقافة الفرنسية، وضرورة فرضها فرضا ـ ولو بالقوة ـ على مجتمعات المهاجرين والجاليات، وعدم التسامح مع أية مظاهر مخالفة لتقاليد المجتمع الفرنسى، أو تتصادم مع هويته وماديته ولا دينيته وأيديولوجياته الفردية.
وبالطبع لن تقضى هذه الرؤية المتعسفة على أسباب الغضب لدى مجتمعات المهاجرين، لكنها ستبقى عليها كامنة تنتظر فرصة للانطلاق مجددا، ومع تنامى الأزمة الاقتصادية بسبب الحرب الدائرة فى أوكرانيا وصعود اليمين المتطرف المحمل بالطفح العنصرى، والرافض لوجود المهاجرين من الأساس، باتت فرنسا مرشحة لمزيد من الاضطرابات العنيفة مالم تغير الحكومة سياساتها، لكن ماكرون يزداد عنادا، وهو ما ظهر فى إصراره على تمرير تعديلات قانون التقاعد رغم الرفض الشعبى الواسع، ليوفر عدة مليارات من اليورو على حساب أصحاب المعاشات، ويصر على المواجهة الأمنية للاحتجاجات والإضرابات، مراهنا على يأس المحتجين وانفراط عقدهم، وهو مالم يحدث فى هذه المواجهة الأخيرة التى أثبت فيها شباب الضواحى أنهم أعمق يأسا، فلم يعد لديهم مايخشونه، أو يخافون عليه، ولذلك كانوا أكثر جرأة.