أخباررئيسيمجتمع الزراعةمقالات

مؤمن الهباء يكتب : الأمومة.. فوق السلطة ( شهادة )

يوم الثلاثاء الماضى، السابع من فبراير الجارى، تنحت ” جاسيندا أرديرن ” رئيسة وزراء نيوزيلندا عن منصبها، تنفيذا لقرار الاستقالة الذى أعلنته منذ ثلاثة أسابيع كى تتفرغ لرعاية طفلتها وأسرتها، وهو القرار الذى أحدث صدمة لدى مؤيديها ومعارضيها على حد سواء، وقالت فى بيان رسمى إنها لم تعد تملك ما يمكن أن تعطيه، وأنها لا تشعر بالندم، بل تشعر بالراحة، فقد نامت بشكل جيد للمرة الأولى منذ فترة طويلة، ووجهت رسالة للنساء اللواتى يشغلن مناصب قيادية، والفتيات اللواتى يتطلعن لخوض التجربة قالت فيها : ” بإمكانكن شغل مناصب قيادية إلى جانب الاهتمام بالعائلة، بإمكانكن القيادة بأسلوبكن الخاص، لكننى شخصيا أتطلع إلى قضاء وقت أطول مع العائلة، والبقاء إلى جانب طفلتى حين تلتحق بالمدرسة فى وقت لاحق من العام الحالى.”

وكعادة السياسيين والمحللين لم يصدقوا أن شابة فى الثالثة والأربعين من عمرها حققت نجاحا سياسيا مبهرا خلال سنوات قلائل، وكانت أصغر رئيسة حكومة فى العالم، يمكن أن تتخلى بسهولة عن هذا النجاح من أجل أن تتفرغ لطفلتها وأسرتها، وراحوا يبحثون عن دوافع أخرى لاستقالتها المفاجئة، فقالوا إنها تخشى الخسارة فى الانتخابات البرلمانية التى ستجرى فى أكتوبر القادم، نظرا لأن ” حزب العمال ” الذى تتزعمه، يسار الوسط، يمر بظروف صعبة أدت لانخفاض شعبيته.

لكن الذين تابعوا مسيرة جاسيندا يستبعدون هذا الاحتمال، إذ تمتلك شخصية صلبة لا تستسلم أمام الأزمات، وتتمتع بذكاء وقبول فطري، وقد واجهت خلال حكمها، الذى بدأ عام 2017 واستمر لما يقرب من ست سنوات، تحديات صعبة عديدة، وأثارت الإعجاب بكفاءتها ورباطة جأشها، مما ساعدها على أن تفوز بأغلبية كاسحة فى انتخابات 2020، وتحتفظ بمنصبها لفترة ثانية.
ونجحت جاسيندا فى أن تكسب قلوب كثيرين ببساطتها وعفويتها وحميميتها، فقد ألغت حفل زفافها عام 2020 بسبب حالة الإغلاق الصارم أثناء وباء كورونا، ولم يمنعها المنصب من أن تحمل وتضع مولودتها، وتصبح ثانى رئيسة وزراء تنجب وهى فى الحكم بعد بناظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة، التى مرت بالتجربة عام 1990.

وكان من أبرز تحديات سنوات حكمها مواجهة جائحة كورونا، وانفجار بركان ” وايت أيلاند “، وعلاج أخطر ركود اقتصادى، والتعامل بروح إنسانية عالية مع أسوأ هجوم إرهابي شهدته بلادها فى مارس 2019، عندما قام مسلح عنصرى بإطلاق الرصاص على المصلين فى مسجدين بمدينة ” كريست تشيرش” جنوب البلاد أثناء صلاة الجمعة، مما أودى بحياة 51 شخصا.

وقد لفتت الأنظار فى الداخل والخارج بتعاملها المتحضر مع هذه الجريمة البشعة، إذ أظهرت تعاطفا وتضامنا عظيما مع أسر الشهداء المسلمين، وذهبت إليهم لتقديم واجب العزاء ومشاركتهم آلامهم وهى مرتدية الحجاب، وكانت واضحة من أول لحظة فى إدانة الجريمة التى سمتها باسمها الصحيح ” جريمة إرهابية عنصرية “، وفى رفضها لأفكار الكراهية التى يتبناها اليمين المتطرف، والاعتراف بوجود هذه الأفكار فى نيوزيلندا، رغم أن الإرهابى الذى ارتكب الجريمة استرالى الجنسية، وفى حزنها الصادق على قتل أبرياء أثناء صلاتهم فى بيت للعبادة، وتصميمها على تغيير القوانين، وفرض قيود على حيازة الأسلحة لضمان عدم تكرار الجريمة، وحظر أي محتوى يدعو للتطرف غبر مواقع التواصل الاجتماعى، وتأكيدها على أن تاريخ بلادها تغير من تاريخ وقوع الجريمة فى 15 مارس 2019.

وأضافت إلى ذلك تلاوة آيات قرآنية فى أول جلسة للبرلمان بعد المجزرة الأليمة حتى يتعرف الناس على الدين الذى جرى الاعتداء على بعض أتباعه، والسماح بنقل أذان الجمعة من الإذاعة والتليفزيون، ودعوة النساء لارتداء الحجاب لإظهار التعاطف والتضامن مع الجالية المسلمة .

وكانت هذه خطوات إيجابية جيدة استحقت بها السيدة جاسيندا الاحترام والتشجيع، فقد كشفت عن روح متسامحة تختلف عن الروح التى يتعامل بها قادة غربيون آخرون، مثل الرئيس الفرنسى مانويل ماكرون، والرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، الذى تعمد ألا يسمى الجريمة باسمها الصحيح، ولم يعترف بدافع الكراهية الدينية لدى الإرهابى الجاني، كما أن حكومتها لم تتستر على شيء من جوانب الجريمة، ولم تهون من شأنها كما تفعل دول أخرى، ففى بريطانيا ـ مثلا ـ وقعت اعتداءات على خمسة مساجد فى برمنجهام فى ذات الفترة الزمنية، لكن رد الفعل الرسمى جاء باهتا.

لقد خسرت نيوزيلندا قيادة حكيمة باستقالة جاسيندا أرديرن، لكن الإنسانية كسبت بها قيمة رفيعة، أعلت مكانة الأسرة والأمومة فوق السلطة.

 


رئيس تحرير جريدة المساء السابق – مصر





مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى