لم تكن قضية فلسطين فى يوم من الأيام تخص الشعب الفلسطينى وحده، وإنما كانت ومازالت قضية العرب والمسلمين جميعا، ومن هذا المنطلق وضعت المقدسات الإسلامية والمسبحية فى مدينة القدس تحت الوصاية الهاشمية لملك الأردن، ووضعت لجنة القدس فى منظمة التعاون الإسلامى تحت رئاسة ملك المغرب، ما يعنى أن العرب والمسلمين من مشرقهم إلى مغربهم فى قلب معركة فلسطين، ومعركة القدس والأقصى، فى مواجهة الاحتلال الصهيونى.
وقد جاء البيان الختامى للقمة العربية الأخيرة فى جدة يوم الجمعة قبل الماضية ــ 19 مايو 2023 ـ مؤكدا على ” دعم الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية ودورها فى حماية هويتها العربية الإسلامية والمسيحية، ودورها فى الحفاظ على الوضع التاريخى والقانونى القائم فى القدس ومقدساتها “.
كما طالب البيان بـ ” بتنفيذ القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية الصادرة عن الأمم المتحدة، التى أكدت على أن المسجد الأقصى ( الحرم القدسى ) بكامل مساحته البالغة 144 ألف مترمربع، هو مكان عبادة خالص للمسلمين فقط، وجزء لا يتجزأ من موقع التراث العالمى الثقافى، والتأكيد على سيادة دولة فلسطين على مدينة القدس ومقدساتها، وعلى مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للأمة العربية جمعاء، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية المحتلة عاصمة دولة فلسطين، وعلى حق دولة فلسطين بالسيادة المطلقة على أرضها المحتلة عام 1967 كافة، بما فيها القدس الشرقية ومجالها الجوى، ومياهها الإقليمية، ومواردها الاطبيعية، وحدودها مع دول الجوار”.
وبينما كان الزعماء العرب يجتمعون فى جدة كان أهلنا فى القدس يخوضون معركة حقيقية فى مواجهة سلطات الاحتلال، ففى اليوم السابق على القمة ـ الخميس 18 مايو ـ كانت هناك مسيرة للأعلام الإسرائيلية تجتاح القدس المحتلة، وهى مسيرة سنوية يشارك فيها وزراء وبرلمانيون ومستوطنون وعشرات الآلاف من الإسرائيليين، لإحياء ذكرى قرار ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل، بعد عام من نكسة يونية 1976، بهدف تغيير هويتها وتأكيد السيادة الإسرائيلية عليها.
وقد فرضت سلطات الاحتلال على الفلسطينيين بهذه المناسبة إغلاق محالهم التجارية، وحظرت عليهم رفع الأعلام الفلسطينية، واعتدى المشاركون فى المسيرة أثناء تجوالهم فى الشوارع على سكانها الفلسطينيين، وقذفوهم بالحجارة والزجاجات الحارقة وهم يرددون : ” الموت للعرب” و ” القدس لنا للأبد “، وتعرض الصحفيون الأجانب الذين يقومون بتغطية الحدث لجانب من هذه الاعتداءات، بينما اجتاح أكثر من ألف إسرائيلى من الجماعات اليهودية المتطرفة باحات المسجد الأقصى تحت حراسة شرطة الاحتلال، وأحدثوا فيها الكثير من التخريب والفوضى.
وفى يوم الأحد 21 مايو ـ بعد القمة العربية بيومين اثنين ـ قام وزير الأمن القومى الإسرائيلى المتطرف إيتمار بن غفير باقتحام المسجد الأقصى مع مجموعة من أتباعه، حيث أدوا فى باحاته طقوسا تلمودية، ثم أدلى بتصريحات استفزازية عبر فيها عن سعادته بدخول المسجد الذى يعد ـ حسب زعمه ـ أكثر الأماكن أهمية لشعب إسرائيل، مؤكدا : ” نحن أصحاب السيادة على هذه الأرض، وعلى القدس، وعلى أرض إسرائيل كلها “.
وفى اليوم نفسه ــ الأحد 21 مايو ـ تعمد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو عقد اجتماع لحكومته فى النفق الذى حفروه تحت المسجد الأقصى للتعجيل بهدمه، ثم صرح للصحفيين بأن حكومته عقدت هذا الاجتماع الخاص هنا، فى عمق القدس وحرمها، كرسالة إلى أبو مازن الذى يزعم أن الإسرائيليين لا علاقة لهم بالقدس والمسجد الأقصى، لنلفت انتباهه إلى ارتباطنا بعاصمتنا، وأن اليهود هنا قبل ثلاثة آلاف عام، حيث كانت القدس عاصمة مملكة داوود قبل أن تكون لندن عاصمة لبريطانيا، وقبل أن تكون باريس عاصمة لفرنسا، وواشنطن عاصمة للولايات المتحدة.
وكان نتنياهو يرد بذلك على الكلمة التى ألقاها أبو مازن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين فى مايو 1948، مطالبا فيها المجتمع الدولى بالتدخل لتوفير الحماية للشعب الفلسطينى، نتيجة ما يعانيه بشكل يومى من ممارسات واعتداءات إسرائيلية، ومتسائلا : ” لماذا لا يوفر المجتمع الدولى ومجلس الأمن الحماية لنا، نحن نتعرض يوميا للذبح والقتل، احمونا، احمونا، أليس نحن بشر، والله حتى الحيوانات يجب حمايتها “.
وهكذا وصلنا إلى الواقع المرير، الذى يستجدى فيه الرئيس الفلسطينى الحماية لشعبه ممن صنعوا إسرائيل، ومكنوها من فلسطين، وما زالوا يمدونها بأسباب الحماية والقوة والتوسع، بينما اختصرت نكبة فلسطين عند العرب فى قضية القدس، واختصرت معركة القدس فى معركة المسجد الأقصى، الذى تعمل إسرائيل علنا من أجل هدمه، حتى يتسنى لها بناء هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه، وفى سبيل ذلك تضفى على معركة الأقصى الصبغة الدينية، ولا تجد من يقف أمامها فى هذه المعركة إلا هؤلاء الأبطال المرابطون العزل فى ساحات المسجد، الرجال والنساء والشباب والأطفال والشيوخ، الذين هم بحق البقية الباقية لكرامة الأمة.
والمسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها يدركون حقيقة معركة الأقصى، لكنهم غافلون مغيبون، تائهون فى صراع الصوفية والسلفية، والفتن الطائفية، ومعارك السنة والشيعة، وأحاديث البخارى وكتب التراث، وأغلب شبابهم ضائع فى مساخر اللهو والترفيه، غارق فى المكايدات الفارغة التى يبثها الصهاينة وأعوانهم لتخريب الهوية الوطنية والدينية والقومية، وتناسوا حكمة كنا نحفظها عن ظهر قلب : ” ومن رضي الحياة بغير دين .. فقد جعل الفناء لها قرينا “.
المسجد الأقصى يناديكم يا أمة الإسلام، يا من فصلتم أنفسكم عن فلسطين ومقدسات فلسطين، وتصورتم أنكم دعاة سلام، فلم يأتكم السلام، ولن يأتيكم السلام إلا بقول الله تعالى : ” إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم “.
انصروا الله فى المسجد الأقصى، وفى القدس، حتى ينصركم فى عيشكم، ويجعل لكم من كل هم وغم فرجا، ومن كل ضيق وبلاء مخرجا.