الدكتورة نجلاء حجاج تكتب : علاقة التغيرات المناخية وانتشار الأمراض المعدية والأوبئة
التغيرات المناخية قضية ليست بالجديدة، فالعالم المتقدم بدأ الانتباه إليها منذ ما يقرب من 25عاما عندما لاحظ أن هناك تغيرًا ما طرأ على المناخ وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى زيادة معدلات النشاط البشري الصناعي الذي أدى إلى زيادة تركيز غازات معينة في الغلاف الجوي، وحدوث ما يسمى بـ”الاحتباس الحراري”.
وجود غازات مثل الميثان وغاز أول أكسيد النيتروز وغاز ثاني أكسيد الكربون وغاز أول أكسيد الكربون وخلافه في الغلاف الجوي هو وجود طبيعي لحفظ حرارة الكرة الأرضية في أثناء فترات الشتاء والليل، ولولا وجود هذه الغازات بتركيزاتها الطبيعية، لانخفضت درجة حرارة الكرة الأرضية شتاءً إلى سالب 30 درجة مئوية.
ولكن مع زيادة معدلات النشاط الصناعي بدأت تحدث معه زيادة في تركيزات هذه الغازات ووجد ان الصين أكبر دولة تُسهم في غازات الاحتباس الحراري، ثم تأتي أمريكا، فروسيا، ثم كندا، ثم دول الاتحاد الأوروبي، أي الدول المتقدمة عمومًا، وذلك بسبب النشاط الصناعي المكثف لديها، لكن على الرغم من ذلك فإن هذه الدول هي الأقل تأثرًا بالتغيرات المناخية.
لقد اصبح تغير المناخ من أهم وأخطر الأزمات العالمية التي يعاني منها المجتمع الدولي لما لها من تأثيرات على كافة نواحى الحياة بما فيها الصحة وبخاصة على انتشار الأمراض المعدية من خلال التغيير في العوامل البيئية والبيولوجية وإنتاج بيئة تكيفية لبعض الفيروسات الخطيرة.
فقد أثبتت الدراسات أن التغيرات المناخية لها دور في نقل وانتشار الأمراض المعدية بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث حفز المناخ الحار ظهور ناقلات فيروسية مختلفة على مستوى العالم مثل البعوض والقراد والذباب الرملي والقوارض يتم ذلك بشكل أساسي من خلال تغيير دورة حياة المتجهات والطفيليات التي تعمل كحامل للفيروسات، أو تغيير التوزيع الجغرافي لإتجاهات الفيروس ونقل العدوى إلى الدول المجاورة على سبيل المثال، ظهور حمى الضنك وزيكا وفيروس النيل الغربي وبعض الأمراض الفيروسية المنقولة عن طريق ناقلات الأمراض في جميع أنحاء العالم حيث انه تم عمل قائمة تضم 375 مرضًا منتشراً في جميع أنحاء العالم، تسببها مسببات الأمراض المختلفة مثل الفيروسات والبكتيريا، وكذلك حبوب اللقاح أو الفطريات، بحسب ما نشرت وكالة الأنباء الألمانية.
ووجد الباحثون خلال الدراسات المختلفة أكثر من 1000 مسار مرتبطة بتغير المناخ ينتهي كل منها بالإصابة بالمرض، وفي كل واحد من هذه المسارات وُجد أحد مسببات الأمراض التي عزز نشاطها بشدة تغير المناخ ومن هذه المسارات التي درسها العلماء الأمطار الغزيرة والفيضانات واحترار المحيطات وموجات الحر والجفاف الذي يجلب الخفافيش التي تحمل العدوى الفيروسية، إضافة إلى البعوض والفئران والحيوانات الحاملة للأمراض.
وتشير الدراسات المختلفة إلى ان الحرارة المرتفعة ترتبط بانتشار 160 مرضًا تقريبا و الفيضانات مرتبطة بانتشار نحو 121 مرضاً كما انه يمكن أن يؤدي الطقس المتطرف إلى إضعاف جهاز المناعة البشري وزيادة التعرض للعدوى عن طريق الإجهاد أو سوء التغذية.
كما أن درجات الحرارة تسهم بتغيير نمو الكائنات الناقلة لمسببات الأمراض عن طريق تعديل معدلات قدرتها على إصابة ضحاياها، وكذلك تؤثر درجات الحرارة على ديناميكية الكائنات الناقلة ومعدل انتشارها بالقرب من البشر، وبالتالى فإن التغير فى أنظمة درجات الحرارة يمكن أن يطيل مدة موسم نقل الأمراض.
كما يمكن لنواقل الأمراض أن تتكيف مع هذه التغيرات الحرارية وقد يظهر هذا التكييف في صورة زيادة الانتشار الجعرافي لتلك النواقل، وقد تكون إحدى أهم نتائج التغير المناخى هى إمكانية ظهور أو إعادة إطلاق فيروسات وبكتيريا وطفيليات مستجدة، فضلا عن إمكانية أن يؤدى الإجهاد الحرارى إلى زيادة إمكانية نقل مسببات الأمراض ذات المنشأ الحيوانى من حيوان إلى آخر، كما يمكن أن يسهم برفع احتمالات انتقال هذه الجراثيم الممرضة ما بين الأنواع المختلفة.
ويثير ظهور وانتشار فيروس كورونا التساؤلات، بشأن احتمالية وجود علاقة بين الفيروس المستجد والظروف المناخية حيث يعد فيروس كورونا وما رافقه من تدهور للقطاع الصحى وشلل الحياة الطبيعية منذ تفشيه فى عام 2019 حتى الآن عينة صغيرة عما قد نواجهه فى المستقبل القريب إذا استمر الوضع على ما هو عليه من تعدّيات مباشرة على الحياة البرية وتداعيات التغير المناخى والتغيير فى درجة حرارة الأرض، لنصبح أمام خطر حقيقى يهدد الحياة برمتها على كوكب الأرض كما حدث مسبقا عند انتشار جائحة إنفلونزا عام 1918.
أنّ الظواهر المناخية الحادة غير المتوقعة تؤثر على الفيروسات من حيث انتقالها من التأثير المحدود إلى التأثير الكبير، وكذا على أطوار الكائنات الحية كلها، سواء الإنسان أو الحيوانات والطيور حتى الفيروسات التي تتأثر بتغير درجة الحرارة والبرودة.
إن أحد أخطر التهديدات الحديثة التي قد تنتج عن تغير المناخ لا يزال متجمدا حاليا ولكن ليس لوقت طويل ففي العام 2015 تمكن مجموعة من العلماء من جمع وتحليل عينات جليد من هضبة التبت الصينية بهدف دراسة الكائنات المجهرية التي تعيش في الجليد منذ آلاف السنين لمعرفة وفهم الظروف المناخية والبيئية القديمة التي تمت أرشفتها في الجليد.
وجد العلماء أنه خلال آخر 15 ألف سنة احتفظت المناطق الجليدية بعينات من فيروسات كثيرة غير معروفة للعلم الحديث كما أظهرت الدراسات وجود 33 مجموعة من أنواع الفيروسات في الجليد منها 28 نوع لم يتم اكتشافها ومعرفتها سابقا ولا توجد أية معلومات حول خصائصها البيولوجية وقدرتها على تشكيل خطر على الصحة ونتيجة للتغيرات المناخية والاحترار الذي يواجهه النظام الرابط بين الغلاف الجوي والمحيطات على كوكب الأرض فإن المناطق الجليدية في العالم تعاني من تقلص مستمر في مساحاتها وذوبان للكتل الجليدية وهذا ما سيؤدي بالضرورة إلى كشف الغطاء الجليدي وإطلاق سراح الجراثيم والفيروسات المتواجدة منذ زمن في تلك المناطق.
كما انه لم يتمكن العلماء بعد من التعرف على كل المخاطر الممكنة المرتبطة بالفيروسات التي تم تسجيلها مؤخرا وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان تطوير إجراءات وقائية لكن سوف تتمكن الدراسات في المستقبل من توفير إدراك أفضل لكيفية تطور هذه الجراثيم والفيروسات وتفاعلاتها ،وسوف تساهم في تطوير نماذج ايكولوجية تنبؤية مبنية على التغيرات المناخية السابقة التي يتم استنباطها من هذا الإرشيف البيئي المتجمد وفي هذا السياق يبقى الحل الأكثر فعالية وتأثيرا هو الحاجة إلى الحفاظ على نقاء وتكامل الغطاء الجليدي والكتل الجليدية.
.وعلى خلاف المفاجأة الكبيرة التي تعرضنا لها في مواجهة كوفيد 19 نحن نملك حاليا مستوى لا يستهان به من المعرفة حول التأثيرات الصحية لتغير المناخ وما زلنا نحظى بمستوى من “الترف” الذي من شأنه أن يساعدنا على التخطيط بشكل مسبق لتطوير إجراءات وقائية وعلاجية متكاملة.
كما انه هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث متعددة التخصصات لفهم الروابط بين تغير المناخ والأوبئة ورسم خرائط توقعية للأمراض المرتبطة بالتغيرات المناخية لتوفير الوسائل الوقائية والعلاجية ونشر المعرفة والتدريب بين الكوادر الطبية والباحثين في المجالات المختلفة.
انطلاقا من معهد بحوث الصحة الحيوانية ككيان مؤسسى يهدف الى نشر الوعى والمعرفة فقد نفذ سلسلة من الدورات وورش العمل في مجال تأثير التغيرات المناخية على قطاع الثروة الحيوانية بأكمله بعنوان”التغيرات المناخية وآثارها علي الثروة السمكية”، في محافظة الإسكندرية بالتعاون مع مديرية الطب البيطري وكلية الطب البيطري جامعة الإسكندرية في إطار التعاون الوثيق بين وزارة التعليم العالي ووزارة الزراعة لبلورة الدور المجتمعي والتنويري وسيواصل المعهد وفروعه في الفترة القادمة بالتعاون مع المؤسسات ذات الصلة تنفيذ باقي سلسلة الدورات وورش العمل.
كما أن الدولة اتخذت العديد من السياسات والإجراءات لمواجهة تحدي التغيرات المناخية والتكيف مع تداعياتها وأطلقت الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050 والتى تناولت رؤيتها لتصدي بفاعلية لاثار وتداعيات تغير المناخ بما يساهم في جودة الحياة للمواطن المصري ، وتحقيق التنمية المستدامة، والنمو الاقتصادي المستدام ، والحفاظ على الموارد الطبيعية والنظم البيئية ، مع تعزيز ريادة مصر في مجال تغير المناخ.
د/نجلاء حجاج – معهد بحوث الصحة الحيوانية- مركز البحوث الزراعية – مصر