مجدي حسين يكتب : كتاب مصطفى خلاف عن سد النهضة من أهم ما صدر فى مصر عن هذه القضية الخطيرة
عندما خرجت من الاعتكاف إلى الدنيا كان موضوع سد النهضة من أهم ما يشغلنى كما يشغل كل المصريين وحاولت الحصول على كل ما صدر من كتب عن هذا الموضوع وفوجئت أنها كتب قليلة , وقد كتبت سلسلة من المقالات على المدونة فى هذا الموضوع وأنا مهتم بقضية المياه فى مصر من قبل سد النهضة لأنها من القضايا المحورية الوجودية لبلادنا بل أهمها على الإطلاق فليس هناك ما يمكن أن يوجد أهم من المياه . وقليلة هى البلاد التى تعتمد أساسا على نهر واحد كمصدر للمياه خاصة عندما يكون هذا النهر ينبع من خارج حدود الوطن .
من بين الكتب القليلة التى وجدتها فى السوق كتاب الاستاذ مصطفى خلاف ” سد النهضة – لعبة بنوك المياه فى حوض النيل ” وقد صدر أخيرا فى عام 2020 وهو أفضل ما كتب من عدة زوايا أنه غطى مختلف الجوانب الأساسية للقضية وتناولها جميعا بموضوعية وتوثيق . فكثير مما كتب حول هذا الموضوع يركز على عداء أثيوبيا لمصر ، ويركز على الخلاف المصرى الاثيوبى وكأن هذا هو جوهر الموضوع . والحقيقة فإن سد النهضة جزء لا يتجزأ من الصراع العالمى الذى تخوضه قوى الهيمنة الدولية والاقليمية وبالأخص الحلف الصهيونى الامريكى فى مجال الصراع على موارد المياه واستخدام السيطرة على مصادر المياه لتركيع الشعوب وفرض شروط سياسية مذلة على البلدان المستضعفة . واستخدام المياه فى الصراع الجيوبوليتكى أى الجغرافية السياسية كأداة أساسية للسيطرة . كذلك هناك دور متميز لاسرائيل لتحقيق مصالحها الخاصة .
أهم مافى الكتاب أنه ربط بين أزمة سد النهضة والدور الاسرائيلى والعلاقة الخاصة بين اسرائيل وأثيوبيا التى عرضها الكاتب فى فصل كامل – الخامس . وكذلك شرح دور الولايات المتحدة منذ الستينيات من القرن العشرين والدراسة المستفيضة التى قامت بها وزارة الزراعة الامريكية حول النيل الأزرق حتى قال د. رشدى سعيد أنه لا توجد دراسة تفصيلية حول أى نهر فى العالم أكثر من هذه الدراسات . علما بأن اثيوبيا ليست لديها مشكلة مياه بل مشكلة فائض مياه وأمطار غزيرة .
وقد وضع الكاتب فى عنوان الدراسة مسألة لعبة بنوك المياه فى حوض النيل . وهى سياسة تبنتها المؤسسات الدولية التابعة للولايات المتحدة . بتحويل المياه إلى سلعة تباع وتشترى كالبترول وغيره من السلع ، وهو توجه شيطانى خطير . لأنها سلعة الحياة أو الموت . ومن الاعجاز فى الحديث النبوى ” الناس شركاء فى ثلاث : الماء والكلأ والنار . والكلأ هو العشب فى الأراضى المفتوحة ، والنار يشير إلى مسألة الطاقة وقد يباع البترول الآن لأن استخراجه عملية مكلفة ولكن من المفترض عدم المغالاة فى سعره وفى غيره من مصادر الطاقة ولا المضاربة حوله . وما يهمنا الآن هو الماء ولا يمكن للماء أن يباع ويشترى إلا فى عرف العصابات الاجرامية للرأسمالية المتوحشة . فهل إذا لم يكن معى مال يكفى أموت عطشا أو يموت زرعى . وما هو دور الحكومات إذا .
بل لقد وصل الأمر إلى حد بداية تنفيذ هذه السياسة وقد لمحت اثيوبيا مرارا إلى استعدادها لبيع المياه . وتبيع كندا المياه للولايات المتحدة بكميات غير كبيرة لسد احتياجات المناطق الشمالية حتى يقولوا لقد بدأنا بأنفسنا .
وكتاب مصطفى خلاف مرجع يوثق فيه حول كل مشكلات المياه فى مصر وكيف دخلت مصر مرحلة الشح المائى وماهى الحلول لمواجهة هذه المعضلة حتى بدون سد النهضة ولكن سد النهضة جاء ليزيد الطين بلة . وأصبح سد النهضة أول بنك مائى فى حوض النيل وألغى دور السد العالى وحول التخزين القرنى منه إلى أثيوبيا . وعند الوقت المناسب سيطلبون صراحة أن تشترى مصر هذا الماء . وتحدث الكتاب عن أضرار سد النهضة على مصر ليس فى النواحى المائية فحسب بل فى التأثيرات البيئية و أضيف مخاطر انهيار السد التى تحدثت عنها دراسات علمية عديدة .
أريد أن أضيف إلى هذه الدراسة القيمة بعض الرؤى الاستراتيجية :
لايجوز لمصر أن تنشغل بحلول فنية تقنية لسد الفجوة المتزايدة بين مواردنا واحتياجاتنا من المياه كحد أقصى للرؤية ، فرغم أن هذا مطلوب ودعوت إليه حتى من قبل سد النهضة فى دراستى الرؤية الاسلامية للنهضة وقد تضمنت دعوتى فى دراسة كتبت عام 2010 : تحلية مياه البحر – حسن استغلال نسبة الأمطار البسيطة التى تهطل على سيناء والساحل الشمالى فى الزراعة – حسن استكشاف واستخدام المياه الجوفية خاصة المتجددة . أقول رغم أن هذا مطلوب وأكثر منه كإعادة استخدام مياه الصرف مرة أخرى وأوروبا تستخدم هذا الأسلوب . إلا أن هذه الخطوات تؤجل المشكلة ولا تحلها .
السودان هو الحل الجذرى لمشكلات مصر المائية والزراعية فأهم مشكلة للمياه هى فى الزراعة التى تستهلك 85 % من المياه . إن التكامل الزراعى مع السودان يحل مشكلة البلدين وقد تحدث الكثيرون فى هذا الأمر فى مصر والسودان إلى حد الملل دون أى تنفيذ جدى وحقيقى على الأرض . وهذا موضوع ممكن ولكن الحديث فيه يطول وليس مجاله هنا . على مصر أن تلعب دورا قياديا مخلصا فى دمج مصر والسودان معا فى مواجهة خطة بايدن لدمج اسرائيل مع العرب ! هذه الخطة فى التوحيد الاختيارى بين مصر والسودان ستساعد فى حل كثير من مشكلات التمزق فى السودان التى تتفاقم ولا تتراجع . ومصر تعانى من الجفاف والشح وقلة الموارد الزراعية . ولا يمكن حل هذه الندرة بكثرة الحديث عن زراعة الصحراء لأن زراعة الصحراء تحتاج إلى المياه التى نعانى من النقص فيها .
إذا تمت زراعة مليون أو 2 مليون فدان فى السودان من القمح فهذا سيكفى مصر والسودان ويبقى فائض للتصدير وهذه مشروعات تم الاتفاق عليها على الورق ولم تنفذ أبدا بجدية حتى ابتلعها النسيان .
راجع كتابى – مصر والسودان .
ثانيا : فى الرؤية الاستراتيجية لايجوز الاستسلام للمؤامرة الاسرائيلية الامريكية فى حصار مصر مائيا لضمان السيطرة عليها وفرض أى شروط سياسية عليها . أقصد لا يجوز الاستسلام لمؤامرة سد النهضة وقد نكون قد تأخرنا فى استخدام الحل العسكرى فالسد قد تم بناؤه وقصفه بالطائرات الآن قد يؤدى إلى فيضان مدمر بالوادى خاصة فى السودان . بالإضافة إلى أن تدمير سد بعد إكتماله لايبدو مستساغا فى العلاقات الدولية . وقد كان رأيى منذ البداية هو رفض التوجه للحل العسكرى وقلت هذا فى الاجتماع مع الرئيس مرسى والذى نقل على الهواء وقد كانت هذا الاذاعة خطأ مروعا ، وقد تم تشويه كلمتى فى برنامج البرنامج لهذا الاعلامى الأفاق من خلال مونتاج حقير وغير أخلاقى . كان رأيى ، ولم يكن السد قد بنى بعد، أهمية التركيز على العمل السياسى والشعبى الجاد مع اثيوبيا ودول حوض النيل . ومقاومة الوجود الاسرائيلى الغريب بتواجد مصرى حى وفعال على مختلف الأصعدة .
ثالثا : اسرائيل تحاصرنا من الجنوب بامتلاك التحكم فى موردنا المائى الرئيسى ، وهى بالإضافة لذلك تريد عدة مليارات من مياه النيل تريد أن تحصل عليها من مصر بالابتزاز حتى لا تغلق علينا خزان سد النهضة . وقد قال عمر سليمان عندما كان مرشحا لرئاسة الجمهورية : إننا نتصل باسرائيل لحل مشكلة سد النهضة !!
فى الاستراتيجية الجادة وإذا أخذنا المثل من لعبة الشطرنج ، فعندما يحرك المنافس بيدقا له فى أقصى يمين الرقعة قد ترد عليه بتحريك بيدقك أو أى قطعة أخرى فى أقصى يسار الرقعة . والذى لايفهم فى اللعبة لن يدرك مغزى هذا . وفى الواقع عندما تتحرك اسرائيل للإضرار بمصر فى أقصى جنوب وادى النيل ، نسمح بدخول أسلحة أكثر تطورا لغزة وتقديم المزيد من العون اللوجستى لها ، وغزة خنجر فى خصر اسرائيل . عنذئذ تتعلم اسرائيل الأدب ، كما تتعلمه الآن مع لبنان وهى من أصغر الدول العربية بدون أن يطلق حزب الله طلقة واحدة على اسرائيل .
لست مع التعامل مع المقاومة الفلسطينية كمسألة تكتيكية بحيث نتراجع عن دعمها إذا توقفت اسرائيل عن الـتآمر علينا فى منابع النيل . فتآمر اسرائيل علينا أوسع من ذلك ولكن هذا هو الحد الأدنى الذى ننصح به لردع اسرائيل .
كما قلت مرارا إن تصدير مصر للسلع والبضائع لغزة يعود على الاقتصاد المصرى ب 2 مليار دولار على الأقل سنويا ونحن أولى بهذا المال من اسرائيل . أضرب هذه الأمثلة لأقول للذين يركزون على مصر ومصالح مصر . مصر ومصالحها ستكون دوما مع العرب والمسلمين وليس مع اسرائيل .
قضية سد النهضة وشربة مياه الشعب المصرى لا يمكن أن تعالج برؤية فنية ضيقة ، وقد حاولنا وسرنا فى طريق مسدود من التفاوض لمدة 10 سنوات والاستنجاد بأمريكا فماذا فعلت أمريكا عندما جرى التفاوض حول السد على أرضها ؟.
مرة أخرى أعود للكاتب الفاضل مصطفى خلاف لقد قام بواجبه وقدم وثيقة بكل أبعاد أزمة سد النهضة والمياه فى مصر واستعان من ضمن ما أستعان به بأفضل الخبراء : رشدى سعيد وجمال حمدان .
نقلا عن مدونة الكاتب الصحفى مجدى أحمد حسين