أخبارمجتمع الزراعةمقالات
الدكتور السيد وجيه يكتب: ذبابة النار والهندسة الوراثية !!! (Firefly & Genetic Engineering)
لقد شاهدت هذه الحشرة رؤية العين أثناء عملي كأستاذ زائر بجامعة ولاية أوكلاهوما في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات وبهرني ما تصدره من ضوء خاصة في الأيام شديدة الظلام التي كنت أخرج فيها خارج فيلتي التي كنت أسكنها في مدينة Stillwater الجميلة إلي البيئة الطبيعية المحيطة بها حيث الظلام الحالك الذي كنت لا أستطيع أن أري كف يدي لو رفعته إلي وجهي لأراه فكانت تطير في كل إتجاه وكأنها مصابيح مضيئة بوهج أصفر مخضر شديد التلألؤ في حجم حبة العنب الصغيرة كمصابيح البطاريات (Torches) وكان مشهداً بديعاً لن أنساه مادمت حياً..
وقد كتبت عنها في كتابي عن الهندسة الوراثية المكون من مجلدان الواحد منهما يحتوي علي 1150 صفحة كأكبر مؤلف عن الهندسة الوراثية صدر في مصر والوطن العربي وربما في العالم أجمع علي حد علمي ومن يعرف كتاب أكبر سأكون شاكراً لو دلني عليه حتي لا أقول بذلك مرة أخري! فهذه الحشرة تستعمل لعزل جين الـ Luciferase المسئول عن ظاهرة إنبعاث الضوء فيها وإستعماله كجين مبلغ (Reporter gene) في تجارب الهندسة الوراثية للتعرف علي الخلايا التي حدث لها تحول وراثي (Transformation) بدخول الجين المرغوب إليها في دراسات الهندسة الوراثية!!! وأشكر صديقي العزيز الأستاذ الدكتور/ أشرف حلمي الذي حفذني بمشاركته هذه لتوسعة نطاق الفائدة لباقي الأصدقاء.
فهذه الحشرة تعرف بذبابة النار (Firefly) ويطلق عليها علمياً الإسم اللاتيني Photinus pyralis وهي ليست من الذباب كما قد يستدل من الإسم الإنجليزي بل هي خنافس (Beetles) باعثة للضوء ولذلك يطلق عليها أحياناً الخنافس المضيئة (Lightning bugs). وتتبع هذه الحشرات العائلة المعروفة بالـ Lampyridae التابعة لرتبة غمدية الأجنحة (Order: Coleoptera). هذه الخنافس التي يتواجد منها أكثر من 2000 نوع يتراوح طول الحشرة فيها من 0.5cm إلي 2.5cm ويمتد فيها الصدر إلي الأمام ليخفي أسفله جزء كبير من رأس الحشرة. هذه الخنافس، ذكوراً وإناثاً، تصدر ومضات من الضوء البارد (Cold light) من غدد خاصة تعرف بالأعضاء الضوئية (Photic organs) تتواجد في القطعة الأخيرة (Last segment) من منطقة البطن وهي الظاهرة المعروفة بالتلألأ البيولوجي (Bioluminescence). وقد وصف الضوء بالبارد لكونه لا يصاحبه خروج حرارة حيث تكون الطاقة الصادرة بكاملها (100%) علي شكل ضوء، بعكس ما يحدث في المصابيح الكهربائية (Electric bulbs) التي يصاحبها خروج كمية كبيرة من الحرارة حيث يصدر 10% فقط من الطاقة في شكل ضوء أما باقي الطاقة التي تمثل 90% فتصدر علي شكل حرارة.
وتستعمل هذه الومضات الضوئية بواسطة الحشرة كإشارات جنسية (Mating signals) تصدرها الذكور لتستجيب لها الإناث بإصدار إشارات جنسية مماثلة فيتعرف بها الجنسان علي بعضهما البعض فيتقابلا ويتم اللقاء الجنسي، غير أنه أحياناً ما تتعرف بها الإناث التابعة لبعض الأنواع علي مواقع الذكور من الأنواع الأخري لتهاجمها وتأكلها.
وتقضي الحشرات الكاملة فترة النهار واقفة علي النباتات وداخل الأشجار مفضلة دائماً الأماكن الرطبة بينما تطير في الهواء بداية من الغروب وأثناء الليل. تضع الإناث بيضها في التربة ليفقس بعد 4 أسابيع معطية يرقات (Larvae) تقضي فترة قد تمتد إلي ما يتراوح بين سنة واحدة إلي سنتان تتغذي خلالها علي الحشرات الصغيرة ويرقاتها وكذا القواقع (Snails) والرخويات (Slugs) وذلك بحقنها بسائل يحتوي علي مواد محدثة للشلل بالإضافة لإنزيمات هاضمة تقوم بهضم الحشرة لتمتص بعد ذلك نواتج الهضم تاركة الهيكل الخارجي للحشرة أو للقوقع فارغاً مما يجعهلها من الوجهة الغذائية من آكلات اللحوم (Carnivorous). بعد ذلك تقوم اليرقة بحفر أنفاق صغيرة تقضي داخلها فترة الشتاء لتخرج منها مع قدوم دفئ الربيع لتبدأ في التغذية مرة أخري لفترة تدخل بعدها في مرحلة الخادرة (Pupa) لتتطور خلال عشرة أيام فقط إلي الحشرة الكاملة التي لا تعيش أكثر من أيام معدودة أو أسبوعان علي أقصي تقدير. وخلال هذه الفترة القصيرة فإن بعض الحشرات الكاملة قد لا تتغذي والبعض الآخرقد يتغذي علي الرحيق وحبوب اللقاح وأحياناً علي الحشرات الأخري والقواقع كما قد تلتهم الإناث الذكور. والنسبة الجنسية في هذه الحشرة تكون دائما في صالح الذكور حيث تبلغ هذه النسبة (50:1) أي أنه يوجد 50 ذكر لكل أنثي واحدة!
والجدير بالذكر أن الحشرات البالغة غير الطائرة (Wingless adults) هي الأخري قادرة علي إصدار الضوء ويشاركها في ذلك اليرقات (Larvae) ولذلك فإنه في كثير من الأحيان ما يطلق عليهما معاً (عرفاً) “الديدان المضيئة” (Glowworms)، ولا يفوت علينا هنا أن نشير إلي أن بيض الحشرة (Eggs) نفسه قد يصدر منه ضوء.
وفيما يختص بكيفية إنبعاث الضوء فقد وجد أن ذلك يتم من خلال التفاعل والذي يبدأ بمجرد دخول الأكسجين (O2) عند تنفس الحشرة من خلال الفتحات الموجودة في مؤخرة بطن الحشرة والمؤدية إلي القصبات الهوائية حيث يقوم الأكسجين بأكسدة مادة الـ Luciferin، وهي مادة مقاومة للحرارة تتواجد بخلايا خاصة تعرف بالخلايا الضوئية (Photocytes)، وذلك بفعل إنزيم الـ Luciferase الموجود في ذات الخلايا وفي وجود الـ ATP منتجاً ثانى أكسيد الكربون (CO2) و AMP وبيروفوسفات (PPi) مع إنطلاق طاقة ضوئية فيما يعرف بظاهرة التلألأ الكيماوي (Chemiluminescence).
وقد وجد أن الضوء المنبعث من الحشرة يصدر في شكل ومضات (Flashes) يختلف نمطها (Rhythmic flashing pattern) باختلاف نوع (Species) وجنس (Sex) الحشرة وتستعمل هذه الومضات كاشارات جنسية لجذب الجنس الآخر وأحياناً لجذب الحشرات من الأنواع الأخري بغرض إلتهامها كما أشرنا.
وعلي الرغم من أن العديد من الحشرات قادرةعلي إصدار الضوء إلا أن ذبابة النار (Firefly) هي الحشرة الوحيدة التي تبعث بضوئها بشكل متقطع (On and Off). ويعتقد بعض العلماء أن الحشرة تتحكم في ومضات الضوء عن طريق تحكمها في كمية الـ O2 التي تستعملها في التفاعل المؤدي لإنبعاث الضوء السابق شرحه، ويعتقد البعض الآخر أن هذا التحكم يكون من خلال الجهاز العصبي.
والجدير بالذكر أن ظاهرة إصدار الضوء عن طريق إنزيم الـ Luciferase قد وجدت في العديد من الكائنات الأخري ومنها الحيوان القشري (Copepod) الباعث للضوء والشبيه بالجمبري والمعروف علمياً بالـ Gaussia princeps الذي يعيش في أعماق المحيطات. وقد تمت الإستفادة من ظاهرة إنبعاث الضوء في هذه الحشرات وغيرها من الكائنات بعزل الجين الذي يتحكم فى تخليق إنزيم الـ Luciferase منها وإستعماله كجين مبلغ (Reporter gene) في تجارب الهندسة الوراثية. ويمتاز إستعمال هذا الجين عن غيره من الطرق في أنه لا يستلزم الكشف عن الإنزيم الذى يتحكم في تخليقه إلى تحطيم الخلايا بل يمكن تحديد توزيع الخلايا التي حدث لها تحول وراثى داخل النسيج في حالتها الحية (in vivo).
فبعد ربط جين الـ Luciferase على يمين الـ Promoter المعين وليكن الـ 35SRNA promoter مثلاً وربطه من الجهة اليمنى بتابع إنهاء النسخ (Transcription termination sequence) وليكن ذلك المأخوذ من جين الـ Nopaline وإقحام التركيب الناتج فى منطقة الـ T-DNA على الـ Ti-plasmid، يتم إجراء التحويل الوراثى لخلايا ورقة النبات (مثلاً) ثم يتم الكشف عن الخلايا التى حدث لها تحول وراثى بتجريح سطح الورقة بقطعة من ورقة السنفرة (Sandpaper) ثم تغمر الورقة فى محلول منظم يحتوى على مادة الـ Luciferin مع الـ ATP. فاذا كان الإنزيم موجوداً بالخلايا فانه سيعمل على مادة الـ Luciferin مؤكسداً إياها في وجود الـ ATP ومنتجاً ثانى أكسيد الكربون (CO2) و AMP وبيروفوسفات (PPi) وطاقة ضوئية. ويعتبر ظهور الضوء بالخلايا دلالة علي نجاح عملية التعبير الجيني (Gene expression) في الخلايا التي تم تحويلها وراثياً.
ويمكن قياس كمية الطاقة الضوئية الناتجة باستعمال جهاز قياس الضوء (Luminometre) غير أنه فى حالة نسيج الورقة الكامل يمكن تغطيته بفيلم تصوير ضوئى عادى (Photographic film) حيث يحدث اسوداد فى مناطق على سطح الفيلم تقابل مناطق الخلايا التى حدث لها تحول وراثى على سطح الورقة.
ولمزيد من المعلومات عن هذه الظاهرة وتطبيقاتها في مجال الهندسة الوراثية يمكن للمهتم أن يطلع علي موسوعتي عن الهندسة الوراثية (Encyclopedia of Genetic Engineering) ذات المجلدين التي بلغ عدد صفحاتها الـ 1500 صفحة والتي تم ذشرها في عام 2020 وللوصول إلي عنوان الناشر يمكن الرجوع للإعلان السابق نشره علي صفحتي علي الـ Facebook!!!
https://youtu.be/T5hIC7QB5QM
الأستاذ الدكتور/ السيد السيد وجيه
أستاذ الفيرولوجي والبيوتكنولوجي،
ورئيس قسم أمراض النبات سابقاً – كلية الزراعة – جامعة الإسكندرية،
دكتوراة (PhD) في الفيرولوجي من الكلية الإمبراطورية (كلية العلوم والطب) جامعة لندن،
درجة عضوية الكلية الملكية للعلوم (DIC) بلندن،
دبلومة التعليم (Education) جامعة كمبريدح-بريطانيا.
و”رئيس تحرير” (Editor-in-Chief) المجلة الدولية للفيرولوجي
(International Journal of Virology) – الولايات المتحدة.