عندما كنت استاذا معارا إلي جامعة الكويت منذ زمن بعيد ، كان ياتينا في بداية الثمانينات ، وقبل أن تحل بالاتحاد السوفيتي نكبة المناهج الاصلاحية الفاشلة، بل والمدمرة التي تبناها ميخائيل جورباتشوف ، اساتذة متخصصون في دراسات الشرق الاوسط من معاهد الاستشراق السوفيتية ، وكانوا في كل نقاشاتهم وحواراتهم معنا حريصين علي تذكيرنا بانهم ، وليس الامريكيين ، هم اصدقاؤنا الحقيقيون ، وكانت تجري علي السنتهم جميعا مقولة واحدة يرددونها عن ظهر قلب طول الوقت وهي ان الصديق عند الضيق ، وان هذا هو المعيار الحقيقي لاختبار حقيقة الصداقة من زيفها.. وكنا نعجب من اصرارهم علي استخدام هذه العبارة وكانهم كانوا يلقنونها لهم هناك قبل مجيئهم الينا.. كانوا بالتاكيد يقصدون تحذيرنا من وعود الامريكيين البراقة لنا بعد عملية كامب دافيد والتي هدفوا منها الي فصلنا عنهم.
كانوا دائمي التذكير لنا ان الاتحاد السوفيتي هو من سلح مصر وهو من بني لها مشروع السد العالي وهو من وقف الي جانبها في حرب السويس وهو من اعاد تسليحها بعد حربي 1956 و 1967 ، وانه كان الداعم لها ولكل العرب في كافة المحافل الدولية وفي كل قضاياهم ،: لم يبعهم ولم يخذلهم ولم يساوم علي الثمن بل كان يتقاضاه مؤجلا في معظم الاحيان… وكنا نعيب علي السوفيت بيروقراطيتهم القاتلة وبطئهم الشديد في اتخاذهم لقراراتهم والتي غالبا ما كانت تاتي متاخرة كثيرا عن وقتها المناسب الا ان القيادة السوفيتية وعلي راسها الزعيم ليونيد بريجينيف كانت تستجيب في النهاية حتي بالرغم من سوء وتوتر العلاقات… كان بريجينيف يتعامل مع الازمات في الشرق الاوسط ليس من زاوية المصالح العرضية الضيقة وانما من منظور استراتيجي شامل ووفق حسابات حذرة ودقيقة ومتانية.. لكنه لم يخذل اصدقاءه.
ثم تغير الحال من النقيض الي النقيض مع تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار امبراطوريته ، واصبحنا ولنحو عشرين عاما الآن مع زعامة من نمط مختلف تماما هي زعامة فلاديمير بوتين للاتحاد الروسي….. زعامة لا علاقة لها بكل هذه الالتزامات والاستراتيجيات والمواقف والسياسات والقرارات السوفيتية القديمة… فقد حرر بوتين نفسه من هذا كله ولم يعد منشغلا به او مكبلا بقيوده… وتحول عنه الي انتهاج سياسات خارجية مفرطة في براجميتها ونفعيتها وانتهازيتها… سياسات لا يحكمها سوي عامل المصلحة وحده.. فهو يتلاعب بكل الاطراف ، ويجيد القفز فوق كل الحبال ، ويتحرك بسرعة زائدة في كل الاتجاهات ، لا تعرف له خصما من صديق ، فما يهمه هو ان يكسب حتي وان كان ذلك علي حساب اقرب شركائه……….. راينا هذا معه في كل مكان : فهو الشريك الاستراتيجي لاردوغان العدو اللدود لبشار الاسد الذي تجمعه ببوتين علاقات شراكة استراتيجية متميزة ودائمة… وهو الشريك الاستراتيجي لمصر الذي يناصبها اردوغان العداء ولا يكف عن استفزازها والتحرش بها…. وهو الذي لم يساند مصر بموقف قوي داعم لها في ازمة سد النهضة وكانه يقف علي الحياد بينها وبين اثيوبيا رغم انها ازمة حياة او موت بالنسبة لمصر كدولة مصب مهددة بالموت عطشا… وهو الصديق الصدوق لنتنياهو الذي يتحفز لالتهام ما تبقي من اراضي الضفة الغربية هذا بينما يزعم بوتين انه اقوي المناصرين للقضية الفلسطينية علي الساحة الدولية ولا نعرف كيف يكون اقوي المناصرين للفلسطينيين ثم يترك الضفة الغربية تضيع منهم مرة واحدة والي الابد.. …. فهو لم يسجل له موقفا معارضا حاسما واحدا من خطط نتنياهو الاستيطانية العدوانية التي لا يكف عن الاعلان عنها ويتوعد الفلسطينيين بها ، وانما سوف يتركها تمر تماما كما سبق وان مر قرار اسرائيل بضم هضبة الجولان اليها ، الجولان التي هي جزء لا يتجزء من اراضي حليفه السوري الذي سمح لروسيا بوتين بان تقيم دولة لها داخل دولته وهو ما يعرفه العالم كله.ولا ينطوي علي مبالغة من جانبنا… .. . .. وكذلك ما يفعله في ليبيا الآن حتي اننا لم نعد نعرف حقيقة الاهداف والدوافع الكامنة وراء دوره الغامض فيها او مع من يقف بوتين ضد من وان كان من الواضح انه يقف اكثر مع حليفه التركي اردوغان فالتساولات كثيرة ولا تجد اجابات حاسمة واكيدة عليها حتي نعرف الي اين تتجه مسارات الازمة الليبية…… .. .
وهناك الف مثال آخر علي براعته الفائقة في تمثيل ادواره باكثر من وجه في نفس الوقت.. وهنا نرجع الي ما بدانا منه هذه الرسالة : اين ذهبت مقولة الصديق عند الضيق السوفيتية القديمة ؟ والاجابة هي انها تبددت وتلاشت عندما اصبحت لغة المصالح وحدها هي اللغة العابرة للقوميات ولحدود الدول وللمذاهب والايديولوجيات وللاديان والثقافات والانظمة والصداقات وللشراكات والتحالفات وللمواثيق والمعاهدات…. وهذا هو الفارق بين الاتحاد السوفيتي القديم وبين روسيا التي ورثته.. او بتحديد اكثر بين ما كان عليه بريجينيف في هذا الزمن البعيد وبين ما اصبح عليه بوتين اليوم….. وما علينا الا ان نفهم ونتعلم ان العالم قد تغير، فلماذا لا نتغير نحن ايضا حتي نستطيع ان نواكبه ونجاريه ؟