الدكتور جمال صيام يكتب : وزير الزراعة والأسعار الزراعية : هل يستطيع أن يكون محايدا ؟ وهل يقبل تحدى “المأسسة” ؟
سئلت عن تعليقى على تصريح لوزير الزراعة أنه لا علاقة له بأسعار المزارعين، وأنه ليس من مهامه أن يحدد هذه الأسعار.وأجبت أن هذا القول يشبه من يقول “لا تقربوا الصلاة” ويصمت عن التكملة حتى يستقيم المعنى ولا ينحرف عن مقصده.نعم الاقتصاد المصرى يقوم على اقتصاد السوق ، يعنى ببساطة الاحتكام إلى تفاعل آليات العرض والطلب فيما يتعلق بتحديد أسعار المنتجات الزراعية التى يرتضيها المستهلكون والمنتجون،لكن لتحقيق هذا الأمر يشترط أن تكون الأسواق “منضبطة” بالمعنى الاقتصادى ، يعنى لا تنطوى على أية أوضاع احتكارية أو شيه احتكارية ، ولا تنطوى كذلك على أية تدخلات سياساتية مشوهة للأسعار.فى ظل أوضاع وخصائص الزراعة المصرية (85% من المزارعين صغار) واوضاع الأسواق الزراعية فى مصر المليئة بالاحتكارات والتشوهات ، لا يستطيع السيد الوزير على الإطلاق أن يكون “محايدا” وإلا تخلى عن أحد أهم مهامه في الدفاع عن مصالح المزارعين.
تجار المحاصيل الزراعية (كبارهم وصغارهم على حد السواء) يستغلون المزارعين منتهزين ضعف قوتهم المساومية ويعطونهم أسعار أقل بكثير من مستواها الحقيقى (تشير الدراسات أن نصيب المزراع لا يتجاوز ما بين 30-40% من سعر المستهلك) ، وتجار المستلزمات الزراعية (كبارهم وصغارهم على حد سواء) يتقاضون من المزارعين ( وبخاصة صغارهم) أسعارا أعلى من مستواها الحقيقى مستغلين أيضا ضعف قدرتهم المساومية .
التزام الوزير بالحياد في ظل هذه الأوضاع يعنى تسليم الأغلبية العظمى من المزارعين للتجار لقمة سائغة ، مما يعنى بالمقابل أن جزءا لا يستهان به من دخول المزراعين يتحول بدون مقتضى إلى الأطراف الأخرى في معادلة سلسلة القيمة الزراعية من تجار محليين ومصدرين ومصنعين. ، وهذا الجزء هو بمثابة ضرائب “ضمنية” يدفعها هؤلاء المزارعين للقطاعات غير الزراعية.لا حظ هنا يا معالى الوزير أننا نتحدث عن انحراف الأسعار الفعلية عن الأسعار الحقيقية ، ولم نتحدث عن أوجه الدعم التي ينبغي تقدم لهؤلاء المزارعين ، وهو أحد الأدوات الحكومية الفاعلة في مجال تشجيع وتحفيز الإنتاج الزراعى.
في هذا السياق تخلت الدولة عن سياسة أسعار الضمان لمحصولى القطن والقمح ، فكانت النتيجة بالنسبة للقطن أن مساحة القطن وإنتاجه تقلصا إلى مستويات غير مسبوقة وقد يختفى تماما إذا استمرت السياسة السعرية على ما هي عليه.وبالنسبة للقمح تخلت الحكومة عن الدعم السعرى الذى دأبت على تقديمه لمنتجيه طوال العقود الماضية ، مما يؤثر أيضا على مساحته وإنتاجه.نعلم طبعا أن تقديم الدعم أوعدمه هو قرار سيادى يعنى أنه من شأن الحكومة وليس الوزير ، إلا أن من المتوقع من سيادته أن يتخذ (في إطار مجلس الوزراء) موقع المدافع عن مصالح المزارعين وعن سياسة الدعم التي ينبغي على الحكومة تبنيها تجاه صغار المزارعين عن استحقاق.
في جميع الأحوال “المأسسة” هي الحل !
أفضل ما يستطيع وزير الزراعة عمله ، بعيدا عن مسألة “الحياد” (ألا يفعل شيئا !) ، هو أن يلجأ إلى مؤسسات زراعية قوية تستطيع أن تنقل جموع المزارعين من أوضاع مهترئة ضعيفة ومستغلة (بفتح الغين) إلى أوضاع تنافسية يقفون فيها على قدم المساواة مع الكيانات القوية الممثلة للأطراف الآخرين في معادلة سلسلة القيمة الزراعية.وتلك هي “المأسسة” Institutionalization ، فالمؤسسات الزراعية هنا يقصد بها مجموعة السياسات والتشريعات والقوانين والعقود والأسواق. وإذا وضعنا الأمر في صورة معادلة (للتبسيط ) نقول أن :
“المأسسة” = سياسات زراعية واضحة + مجالس سلعية + قوانين زراعية فاعلة + منظمات مزارعين (تعاونيات وروابط واتحادات ونقابات..إلخ) قوية وفاعلة + زراعة تعاقدية (تربط منظمات المزارعين بالأطراف الأخرى في سلسلة القيمة الزراعية) + تأمين (تكافل زراعى) + جهاز إرشاد زراعى فعال + أسواق زراعية “منضبطة” + مؤسسة بحثية متقدمة في مجالات الإنتاج الزراعى والتسويق والابتكارات التكنولوجية + جهاز جمع وتحليل البيانات الزراعية.
إذا تحققت هذه المعادلة على أرض الواقع يستطيع السيد الوزير أن يبيت مطمئن البال ليس فقط بشأن الأسعار الزراعية ، ولكن أيضا بشأن الجزء الأكبر من مشكلات ومعوقات التنمية الزراعية في مصر. لقد تلقى الوزير توجيها من أعلى المستويات بالبدء في عملية “التطوير المؤسسى” في الزراعة ، وها نحن قد وضعنا الأمر في صورة ” معادلة” بيد أن تحقيقها على أرض الواقع ينطوى على أكبر قدر من التحدى ، فهل يقبله ؟