ينبغى لكل عاقل ..أن يدرك النهايات ..قبل البدايات حتى يحسن العمل فيما بينهما .. فلكل بداية نهاية ..وطالما جئت إلى الحياة الدنيا .. فاعلم انك راحل عنها. فلايغرنك طول ألامل ولايفتنك مال جمعته .. أو وظيفة أو منصب ارتقيت إليه ..فكل ذلك زائل .. ولا تكن .ممن قيل فيهم الناس فى غفلة فإذا ماتوا انتبهوا.
وقد حذرنا الحق من الغفلة وأمرنا بأن ندقق فى أعمالنا واقولنا لأننا مسؤولين عن ذلك فى يوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ..وعلينا أن نضع قول الحق سبحانه نصب أعيننا ..
(وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فهذه الآية هى آخر آية نزلت من القرآن الكريم على النبى صلى الله عليه وسلم ..
والحقيقة المؤكدة أن كل الناس ميتون ..عند انتهاء الاجل مهما تعددت الأسباب .. ..وان بعد الموت بعث ونشور .. عند النفخة الثانية فى الصور يقول تعالى (ونفخ فى الصور فإذا هم من الأجداث ينسلون )..و سيجمع الناس فى أرض المحشر ..للعرض والحساب وتطاير الصحف فمن الناس من يأخذ كتابه بيمينه ومنهم من يأهذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ..وهذا الكتاب مسجل فيه (كل شئ لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها) وسيتم الحساب عليها ..(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شره) وسينتهى الحساب إلى فريقين ..فريق فى الجنة وفريق فى السعير …وأهل الجنة سيساقون إليها زمرا اى جماعات حتى ينعموا… اللهم اجعلنا منهم ..وأهل النار سيساقون الى جهنم زمرا حتى يعذبوا ..اللهم ابعدنا عنهم ….
ومن ألأمور التى تجعل الإنسان ينتبه إلى مصيره المحتوم ..وأنه إلى الله راجع ..ماجاء فى القرآن عن البعث والمشورة فقد جاءت كلمات بعض الكلمات التى ينبغى أن نتوقف عندها..حتى تزيدنا إيمانا ويقينا بلقاء الله ..والوقوف بين يديه ..
لانه من المعلوم أن كلمات وآيات القرآن الكريم كاللؤلؤ عطاؤها يزداد جمالا وجلالا وبهاءا ..مع مرور الزمان وعندما تستقبلها بقلب صافى…فكل كلمة فى القرآن لها مدلولها وتؤدى المعنى المناسب لها ..ومن هذه الكلمات كلمة «الأجداث»..وكلمة «القبور ».وكذلك عبارة (الجراد المنتشر..والفراش المبثوث)
أولا: المقارنة بين القبور والأجداث..
—————————————–
لقد وردت كلمة أجداث في القرآن ثلاث مرات ووردت كلمة (القبور) ثماني مرات .. وتقول بعض المعاجم المعاجم اللغوية
تقول أن الجدث يعنى القبر…!
او (الأجداث). تعنى (القبور.)
ويرجعون ذلك تاريخيا پان علماء اللغة يقولون بأن القبر كلمة معروفة عند العرب وكان يستعملها قبائل اليمن وقبائل العرب وما بينهما وقبائل الشام. أما كلمة (الجدث )فالأصل فيه أنها كلمة كانت لقبيلة هذيل. …وقبيلة هذيل كانت في وسط الجزيرة وهى من القبائل التي اُخِذ منها العربية وأما قبيلة تميم كانت تقول (جدف ) وهناك تقارب بين إلثاء والفاء .. وقبيلة ، قريش أخذت كلمة جدث من قبيلة هذيل وصارت تستعملها ونزل القرآن بها.و( الجَدَث ) …هى مفرد (أجداث)،
الفرق بين الأجداث والقبور فى القرآن الكريم
—————————————–
الملاحظ أن القرآن استعمل كلمة ( الأجداث) فى البعث ولم يستخدم كلمة ( القبور ) فقد كان بإمكان القرآن أن يقول (يخرجون من القبور) بدل من أن يقول (يخرجون من الأجداث)..وهذا يتضح لنا من خلال استعراض الآيات القرآنيةالتى وردت فيها كلمة (أجداث ..)
الآية ألاولى ..يقول تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ..سورة يس) ، ولفظ الأجداث مفردها الجَدَث أو (الجَدَثة) وهو صوت الحافر والخُفّ، على الأرض أثناء السير
اما(الجَدَثة) هو صوت مضغ اللحم أيضًا أثناء الاكل …بمعنى مضغ اللحم اى يخرج الناس مسرعين وقد مضغتهم الأرض حقيقة ولم يبق منهم شيء.
ويقول الله تعالى أيضا
——————-
(خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ…سورة القمر)اى أبصارهم خاشعة ..أى فى ذل وانكسار ويؤكد ذلك المعنى قوله تعالى(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ .. سورة المعارج)، وقوله تعالى (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ سورة القلم)
والانكسار ليس فى البصر ولكن فى الوجه يقول تعالى ( هل أتاك حديث الغاشية ،وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ… سورة الغاشية)
ويقول تعالى (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ… المعارج) …
أما كلمة القبر أو القبور فقد ذكرت عدة مرات فى القرآن جاء استعمالها كفعل كقوله تعالى (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ سورة عبس) واستعمل المفرد منها كقوله تعالى (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ سورة التوبة) …
واقتصر ذكر القبور فى القرآن كأماكن لدفن أجساد البشر بعد الموت. وجاء ذكرها للدلالة على حال السكون والهمود لمن يسكن هذه القبور..كقوله تعالى (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) الممتحنة. فقد شبه القرآن الذين لا يستجيبون للدعوة الايمان كأنهم جثث هامدة ساكنة لاحراك فيها كساكنى القبور الذين لا يسمعون ولو سمعوا ماستجابوا يقول تعالى (وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) سورة فاطر.
وعندما قال الحق سبحانه (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) الانفطار. دل على موعد قيام الساعة لكن ، فلم يذكر الخروج منها، ومثله قوله تعالى (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) سورة العاديات.
وبالتالى مما سبق فإن استعمال لفظ القبور يكون فى حالة الهمود والسكون
أما استعمال لفظ الأجداث يكون في حالة الإخراج والعَدْو والسرعة.
وهذا يؤكد بشكل واضح أن الخروج يوم القيامة يكون من الأجداث وليس من القبور …لانه مثلا اين القبر الذي سيخرج منه ذلك الذي مات غريقا في بحر…وأين القبر الذي سيخرج منه ذلك الذي مات في البرية وأكلت جسده الوحوش وطيور السماء ونثرت تراب عظامه رياح الصحراء ؟..
وأين القبر الذي سيخرج منه ذلك الذي مات في مجتمع يحرق أجساد موتاه وينثر رمادها في الهواء او في الأنهار ؟
حتى القبور التى دفنت فيها الاجساد. بعد الرجفة و الزلزلة..عند النفخة الاولى لايستقر قبر ..بل كما يقول الحق سبحانه .فى سورة ألإنفطار يقول تعالى (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أى أن هذه القبور التي نراها حاليا سوف ( تُبعثر )..بمعنى انها ستتحطم ويتغير اماكن وجودها من جراء تحرك صفائح الارض وارتجافها وزلزلتها وغيرها من التغيرات في يوم القيامة .
فلايوجد قبور عند النفخة الثانية ..والمقصود بها نفخة البعث
لذلك من خلال هذه التساؤلات السابقة نكتشف أن الأجداث
لا تعني القبور … إذاً قبور الدنيا سوف تتلاشى وتبقى ( الأجداث ) مبعثرة ومختلطة بتراب الارض أينما وُجدت .
وعندما نسأل عن كيفية الخروج من تلك الأجداث. يتضح ذلك من قوله تعالى :-
ونزلنا مِنَ السماء مَاءً مباركا فأنبتنا بِهِ جنات وحب الحصيد ، وَالنَّخْلَ باسقات لَّهَا طلع نضيد ، رزقا للعباد ۖ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ،)ونلاحظ جملة ( كذلك الخروج ) في هذه الآية .
إن الاجسام تخرج من الأجداث كما تنبت الجنات وحبوب الحصيد وغيرها من النباتات عندما ينزل عليها الماء من السماء
ونحن نعلم ان الارض مليئة بذرات صغيرة جداً من البذور التي تنبت منها الأشجار عندما ينزل المطر عليها …
اذاً فالأجداث هي ذرات متناهية الصغر من خلايا الجسد (عجب الذنب ) ينبت منها كل انسان مات في الحياة الدنيا وحيثما كانت تلك الذرة ينبتها الله وينسل منها جسد المبعوث قال الله تعالى :-
(وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا , ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا)
وعن أبي هريرة رضِي الله عنه الذي اخرجه الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين النفختين أربعون»
قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما؟ قال: أبيتُ، قال: «ثم يُنزِل الله ماءً فينبتون منه كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب ـ آخر عمود الظهر ـ ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة»…
ثانيا…الفرق بين الجراد المنتشر والفراش المبعوث
—————————————
نقول إن المقصود بهما وصف حال الناس وقت البعث وعند النفخ فى الصور وذهابهم إلى أرض المحشر…والصورتان تشيران إلى الكثرة…فقد وردت آيات تصور الناس حال البعث ..كأنهم كالجراد المنتشر والتى وردت فى قوله تعالى “خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ” [سورة القمر ].
ووردت ايات أخرى تصور الناس كالفراش المبثوث لقوله تعالى..{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[سورة القارعة ]،
وهناك قوليين للمفسرين
القول الأول .
———————
يرى أن حركة الفراش تختلف عن حركة الجراد …فحركة الفراش تتسم بالاضطراب، وعدم التوافق، وعدم الانتظام، بخلاف حركة الجراد فإنها تتسم بالانتظام والانضباط مع الكثرة،
ويرى أصحاب هذا القول ان بداية البعث تكون حركة الناس مضطربة كالفراش المبثوث كما قال الله جل وعلا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف].، فلا يدرون أين يذهبون كأنهم فراش ليس لهم وجهة ويملؤهم الخوف والفزع والشدة مما هم فيه ..الذى يطلق عليه الفزع الاكبر …
فحالهم آنذاك يكون كحال الفراش الذي لا يدري اين يذهب ؟؟
و لذلك قال الله تعالى:
(الْقَارِعَةُ ، مَا الْقَارِعَةُ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) .
ثم بعد ذلك يتحولون إلى حركة تشبه حركة الجراد التي تتسم بأنها حركة منتظمة وتسير فى جماعات ، خلف ملك كريم ويقال إنه الملك إسرافيل عليه السلام ، بعد أن يكون إسرافيل قد دعاهم إلى أرض المحشر. يقول تعالى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه]. ..
القول الثانى .
——————-
واصحاب هذا الرأى يرون أن الله وصف الناس في أرض المحشر بالجراد والفراش ولم يصفهم بالنمل أوالنحل لأن الجراد والفراش لاوطن لهم ولا مقر…و أنه لا فرق بين الجراد المنتشر والفراش المبثوث من حيث أن كليهما لاوطن لهم .. وان الفراش أو الجراد المنتشر تجده يذهب يمينًا ويسارًا، لا يدري أين يذهب،يتخبطون عن غير هدى وبالتالى كأنها كلماتان مترادفتان يصوران حال الناس ..
وجدير بالذكر أن البعث يكون مفاجأة خاصة لمن لم يكن فى حسابه هذا اليوم ..و سيقول من بعثنا من مرقدنا ؟..ويقول الكافر …ياليتنى كنت ترابا
وعلى قدر استكبار الانسان فى الدنيا .. سيكون ذله وهوانه في مواقف الآخرة وعلى قدر تقواه وإيمانه سوف يكون آمنا من الفزع الاكبر ….
ولذلك علينا جميعا أن نتذكر
الموت وسكرته، والقبر ووحشته، والنفخ في الصور وفزعته، والصراط وزلته، …وارض المحشر وتطاير الصحف ..والصراط والميزان فنعمل عملا صالحا ..ونتقى الله فى كل أعمالنا وأقوالنا وسلوكنا ..حتى نبتعد عن النار والجحيم ..ونكون من ورثة جنة النعيم ..
جمعتكم طيبة مباركة
ا.د / ابراهيم درويش
استاذ المحاصيل وكيل كلية الزراعة جامعة المنوفية ..