مؤمن الهباء يكتب : البكاء بين يدى الشيخ محمد رفعت
كنت صبيا عندما بدأت إذاعة القرآن الكريم إرسالها عام 1964، وارتبطت هذه المناسبة عندى بالوالد ــ رحمة الله عليه ــ الذى أجريت له عملية جراحية فى ذلك الوقت، فاضطر إلى أن يمكث فى البيت نهارا على غير عادته، وكانت الإذاعة الوليدة هى سلواه ومتعته، يستمع منها إلى مشاهير القراء، الذين يأتون إليه مجانا عبر الأثير، وقد أدركت مبكرا من خلال حديثه مع زائريه عظمة هؤلاء القراء الكبار، وكيف ينظر الناس إليهم وإلى الإذاعة التى جاءت بهم بكل إجلال وتوقير، واستطعت أن أميز من هؤلاء الأكابر شيوخنا محمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمود خليل الحصرى ومحمد صديق المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد، رحمهم الله جميعا.
وكثيرا ما كنت أتباهى أمام زملائى فى المدرسة بأنى سمعت هذا الشيخ أو ذاك فى إذاعة القرآن الكريم، فقد كانوا هم نجومنا، الذين نتحدث عنهم، ونفخر بمعرفتهم، وحين بلغت مرحلة النضج، أدركت شيئا من أسرار التميز ومكامن النبوغ عند هؤلاء العباقرة، الذين تأسست على أيديهم دولة التلاوة المصرية، وغزت أصواتهم أرجاء المعمورة، وارتبط بهم الناس فى أنحاء العالم، يطربون لهم ويتعلمون منهم، وينسج على منوالهم من أراد أن يدخل هذه القلعة الشماء.
وحتى بعد أن تكاثر القراء فى مصر وغيرها من البلدان، مازال هؤلاء الرواد يحتفظون بمكانتهم المتقدمة، وما زال كل منهم يمثل مدرسة قائمة بذاتها، لها خصائصها ولونها وطعمها، ولها مريدوها.
أما بالنسبة لى فقد كان الشيخ محمد رفعت ــ وما زال ــ سابقا للجميع، بما منحه الله من موهبة فريدة، تجمع بين الخشوع وطلاوة الصوت، فهو حين يتلو القرآن تخرج الكلمات من قلبه لتستقر فى قلبك، محملة بمشاعر وأحاسيس مرهفة، تقربك من المعنى الذى أراده الله عز وجل، حتى ليخيل إليك أنه يفسر الآيات بصوته؛ يعلو ويحتد فى الوعد والوعيد، ويهدأ فى التبتل، ويرق فى الدعاء، ويطمئن فى الذكر، ويصفو فى التأمل والتذكير، كأنما أوتى مزمارا من مزامير داوود عليه السلام
ولم ينعقد الإجماع على أحد من القراء مثلما انعقد على الشيخ رفعت، الذى أطلق عليه بحق ” قيثارة السماء”، رغم أن تسجيلاته قليلة وقديمة، وقد صدقت فيه مقولة مولانا الشيخ متولى الشعراوى ــ رحمه الله ــ حين سئل عن أحب القراء إليه فقال:” إن أردنا أحكام التلاوة فالحصرى، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبد الباسط عبد الصمد، وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هذا كله فهو محمد رفعت “.
وعلى مدى سنوات طويلة مضت، كان لإذاعة القرآن الكريم فى بيتى مكانة مميزة، خاصة فى الفترة الصباحية، حيث ارتبطت حركة كل من فى البيت بمواعيد برامجها الثابتة التى نعرفها مقدما، ونعرف تسلسلها منذ السادسة والنصف صباحا، عندما تبدأ ربة البيت ـ رحمها الله ـ مسئولياتها اليومية، وأول هذه المسئوليات تشغيل الراديو، الذى لايتزحزح مؤشره عن إذاعتنا المفضلة، فصارت بحكم الاعتياد عنصرا أساسيا فى ضبط مواعيدنا.
كنت أستيقظ فى السابعة على صوت الشيخ رفعت، الذى يقرأ يوميا من السابعة إلى السابعة والنصف، وكان من عادتى التى لم أتخلص منها إلى اليوم أن أمكث لدقائق فى الفراش بين اليقظة والنوم، لا أنهض دفعة واحدة، بل أستسلم لسياحة فكرية قصيرة هنا وهناك فى أمتع لحظاتى، وأكثرها شفافية، فأتذكر مانسيت، أو ألمح ومضة كنت أبحث عنها، وأحيانا أجد نفسى مستغرقا مع تغريد الشيخ رفعت، فتحلق روحى معه ذاهلة عن العالم، وفى الوقت الذى يعلو فيه ضجيج الأبناء وهم يستعدون للذهاب إلى مدرستهم، يأخذنى الشيخ معه إلى حالة من الوله الذى نقرأ عنه عند الصوفية، فلا أسمع إلا صوت بكائى.
ولقد بكيت مرات عديدة بين يدى الشيخ رفعت، أذكر منها حين صحوت على صوته وهو يقرأ من سورة ” الواقعة ” آيات تهز الجبال الراسيات، يخاطبنا فيها ربنا جل شأنه بكلمات فى غاية اللطف والحنان، وبمنطق فى غاية البيان، ويسوق لنا الأدلة القوية، ليثبت لنا ـ نحن عبيده ــ أنه سبحانه من خلقنا ورزقنا، ولا أحد سواه، فيقول:” نحۡنُ خَلَقۡنَٰاكُمۡ فَلَوۡلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ (58) ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰالِقُونَ (59) نَحۡنُ قَدَّرۡنَا بَيۡنَكُمُ ٱلۡمَوۡتَ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ (60) عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ أَمۡثَٰالَكُمۡ وَنُنشِئَكُمۡ فِي مَا لَا تَعۡلَمُونَ (61) وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُولَىٰ فَلَوۡلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ (63) ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰارِعُونَ (64) لَوۡ نَشَآءُ لَجَعَلۡنَٰاهُ حُطَٰامٗا فَظَلۡتُمۡ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغۡرَمُونَ (66) بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ (67) أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ (68) ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ (69) لَوۡ نَشَآءُ جَعَلۡنَٰاهُ أُجَاجٗا فَلَوۡلَا تَشۡكُرُونَ (70) أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ (71) ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ (72) نَحۡنُ جَعَلۡنَٰاهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰاعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ (73) فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ (74) “.
ومرة أخرى ــ أتذكر ــ صحوت على بكائى والشيخ يقرأ بصوته الشجى، المسكون بالأسى والأسف، آيات من سورة ” القمر” يحكى فيها ربنا جل شأنه بعضا من قصص الكافرين المعاندين، الذين كذبوا رسله، وكيف حل بهم العذاب الأليم، ثم يختتم كل قصة بسؤال يفيض رحمة ولطفا، كأنه سبحانه يتودد إلى الناس لعلهم يتعظون مما يقرأون، فيقول : ” وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ (17)”.
ولا يتسع المقام هنا لمواضع أخرى فى القرآن الكريم، يستحضر فيها الشيخ رفعت البكاء بصوته الندي فيبكى من يسمعه، وقد بكى كثيرون بين يدي الشيخ مثلما بكيت، حين مست كلمة الله شغاف قلوبهم.
جزاك الله عنا خير الجزاء ياشيخنا، وتغمدك بواسع رحماته.