يسألونك عن استقرار سعر الصرف، قل إنَّ سعر الصرف هو قيمة العملة المحلية، مُقومًا بالعملات الأجنبية الرئيسة التي تدخل معه في معاملات، وتحدده الدولة وفقًا لما يتدفق إليها من نقد أجنبي، وعلى أساس العرض والطلب؛ أما الاستقرار فهو الثبات والرسوخ.
ويؤدي عدم استقرار سعر الصرف إلى زعزعة العملة، وارتفاع أسعار السلع والخدمات؛ وبالتالي حدوث اضطراب في المجتمع.
ويأتي استقرار سعر الصرف من خلال عملة قوية لها موارد قوية من النقد الأجنبي، تستند إلى قاعدة إنتاجية وصناعية قوية.
وقبل أن نتحدث عن سعر الصرف، نلقي نظرة على وضع الجنيه منذ صدوره في أواخر القرن التاسع عشر، والذي لم تكن تعادله أي عملة رئيسة على مستوى العالم.
وقوة العملة تعني استقرار سعر الصرف، الذي يُعد انعكاسًا لقوة ومتانة اقتصاد الدولة، ومدى سلامة سياستها المالية والنقدية؛ أي إنَّ أي عملة لا يمكنها مجابهة العملات الرئيسة، إلا إذا استندت إلى اقتصاد قوي ذي إنتاجية وجودة عالية، وقدرة فائقة على المنافسة والنفاذ للأسواق الخارجية؛ وبذلك تتدفق موارد النقد الأجنبي من مختلف العملات الأجنبية الرئيسة.
وبالنظر إلى موقف الجنيه خلال العقود الستة الماضية، يتبين أنه لم يتمتع باستقرار في سعر صرفه في مواجهة العملات الأجنبية الرئيسة، خصوصًا الدولار الأمريكي؛ إذ بدأ التراجع منذ 1956، ثم واصل تراجعه دون أن تتمكن السلطات النقدية والإجراءات السلطوية من الحيلولة دون تراجعه!
وقد مرَّ سعر صرف الجنيه منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن بسلسلة متدرجة من عدم الاستقرار، أدت إلى انخفاضات متتالية لقيمته؛ حتى ظهرت السوق السوداء التي كانت تظهر وتختفي، ولكنها لم تختفِ إلا قليلًا في تسعينيات القرن الماضي حين استطاع البنك المركزي خلالها تكوين احتياطي نقدي بلغ نحو 22 مليار دولار؛ ما عزز الثقة في سعر الصرف في تلك الفترة.
وارتفع الاحتياطي النقدي مع مطلع الألفية الثالثة ليصل إلى نحو 36 مليار دولار، ثم يتراجع إلى 14 مليار دولار في 2012 ، ثم عاود الارتفاع مرة أخرى إلى نحو 34.2 مليار دولار.
وقد أثارت قضية سعر الصرف على مدي أكثر من ستين عامًا كثيرًا من الجدل؛ فتراجع الجنيه بنسب فادحة، كان لها آثارها السلبية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، وازدادت حدتها لتلقي بظلالها على مستوى معيشة المواطن، فلم تستجب للإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة؛ لأنها كانت مجرد مسكنات، دون علاج جذري يُعيد للجنيه قيمته، التي كانت تعادل 4 دولارات، ويساوي جنيهًا من الذهب وقرشين ونصف، ويفوق الجنيه الإسترليني بنحو 3 قروش.
ولم تفلح الإجراءات السلطوية في منع تراجع قيمة الجنيه أمام معظم العملات الرئيسة؛ فظلت قيمته تتراجع متخطيةً كل الخطوط والحواجز ليصبح قيمة الدولار نحو 31 جنيهًا في الوقت الحالي.
وترجع أزمة سعر الصرف إلى عدم وجود مصادر نقد أجنبي كافية؛ بل مصادر ريعية هشة، وليست إنتاجية؛ وبالتالي تعاني البلاد من عجز مزمن في الميزان التجاري، وكذلك في ميزان المدفوعات.
وقبل أن نحلل موارد النقد الأجنبي لمصر، فإن هذه الموارد تكتسب أهمية كبرى لدى معظم دول العالم؛ لأنها تعكس قدرتها على تأمين احتياجاتها من السلع والمواد الخام والمعدات الرأسمالية اللازمة لدفع عجلة الإنتاج.
ويعكس العجز، أو التراجع في قيمة تلك الموارد لأية دولة، آثارًا سلبية على الوضع المعيشي للمواطن، وعملية التنمية، علاوة على مايمثله من ضغوط متوالية على العملة المحلية؛ فتنخفض قيمتها؛ لتلجأ الدولة إلى الاقتراض من الخارج لسد العجز في الفجوة التمويلية، بما لها من أعباء على حركة الاقتصاد وتقديم الخدمات التعليمية والصحية.
وتتمثل موارد مصر من النقد الأجنبي في الصادرات، وتحويلات المصريين بالخارج، والإيردات السياحية، وحصيلة المرور في قناة السويس، والاستثمارات الأجنبية، فضلًا عن المساعدات الأجنبية.
وقد بلغت الصادرات المصرية من يناير إلى نوفمبر العام الماضي نحو 46.9 مليار دولار؛ منها 32.4 مليار دولار صادرات سلعية، و14.5 مليار دولار صادرات بترولية بما فيها حصة الشريك الأجنبي، وبلغت تحويلات المصريين العاملين في الخارج 31.7 مليار دولار، وبلغت حصيلة الإيرادات السياحية نحو 10.7 ملياردولار، في حين بلغت رسوم المرور في قناة السويس نحو 7 مليارات دولار، وسجلت الاستثمارات الأجنبية نحو 8.9 مليار دولار، بينما كانت المساعدات الأجنبية بالسالب بنحو 271 مليون دولار!
وقد بلغ العجز في الميزان التجاري خلال العام المالي الماضي نحو 43.4 مليار دولار، وسجل ميزان المدفوعات عجزًا بلغ 10.5 مليار دولار.
ويتضح من هذا أن موارد النقد الأجنبي لمصر غير كافية، ولا تعتمد على قاعدة إنتاجية راسخة، بل موارد ريعية هشة عُرضة لأي ظروف طارئة، أو هزات غير متوقعة.
وعلى الرغم من الإجراءات الرقابية للتغلب على عدم استقرار سعر الصرف، ومنع تدهور قيمة الجنيه، والقضاء على السوق السوداء، مازالت المشكلة قائمة، بل وتهدد الاستقرار الاجتماعي للأسرة المصرية؛ لأن المحدد لحركة السوق والضابط للأسعار هو سعر الصرف، الذي يؤدي عدم استقراره وارتفاعه المتواصل إلى تواصل ارتفاع أسعار السلع؛ ما يخلق أزمات في المجتمع، مع استمرار التضخم الحلزوني الذي لا يرحم المواطن، ويحول دون قدرته على توفير ضروريات الحياة لأسرته.
والمتابع لسعر الصرف خلال أكثر من نصف قرن، يتبين له أن الحكومات المتعاقبة لم تضع حلولًا جذرية لعلاج أزمة سعر الصرف، وإنما اعتمدت على المسكنات، التي تتمثل فى الاقتراض المتواصل من الخارج، وبيع الأصول؛ أي لاتوجد خطة واضحة للتغلب على النقص في موارد النقد الأجنبي، مع غياب الاستثمارات الحقيقية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج، كما أنها لم تُعمِل أولويات الإنفاق وظلت تُرحِّل الأزمة؛ حتى تفاقمت في الآونة الأخيرة، وأوشكت على أن تكون خارج السيطرة.
وللتغلب على أزمة سعر الصرف المزمنة، ومنع تدهور قيمة الجنيه، يجب وضع خطة واضحة شاملة ذات أهداف محددة تُنفَّذ في مدة زمنية معينة، تقوم على: خلق مناخ صحي إيجابي تنافسي، يعمل على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية في مشروعات إنتاجية تُدخِل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، والاعتماد بنسبة كبيرة على المنتج المحلي، والاهتمام بالتصنيع، مع إقامة صناعات متنوعة؛ باعتبارها القاطرة الأساسية للاقتصاد، وتشجيع التصدير؛ لإحداث توازن بين الصادرات والواردات، مع إقامة مشروعات تحل محل السلع المستوردة، وإحداث ثورة إنتاجية حقيقية في كل المجالات، يشارك فيها الجميع؛ وبالتالي الاستفادة من القوى البشرية وتوفير عنصر الثقة والمصداقية، واستشارة أهل الخبرة في جميع التخصصات.
على الحكومة أن تسارع بوضع حل جذري لأزمة سعر الصرف؛ حتى لاندخل في دوامة عدم القدرة على توفير النقد الأجنبي؛ لأن أسعار السلع والخدمات ستواصل ارتفاعها دون سقف.
لاشك في أن استقرار سعر الصرف أساس الاستقرار.