أخباررئيسيمقالات

محمد خراجة يكتب : ماذا بعد التعويم ؟

يسألونك عن التعويم، قل هو السعر الذي لا يصاحبه أي إجراء وتدخل من الحكومة أو البنك المركزي.
والتعويم في اللغة يأتي من فعل يعوم في الماء، فهل كان الجنيه غريقًا ليتم تعويمه؟!
والتعويم نوعان:
– الحر: وهو ألا يتدخل البنك المركزي فى تحديد سعر الصرف؛ وبالتالي يخضع السعر لقواعد السوق (العرض والطلب).
– المُدار: وهو ترك سعر الصرف يتحدد وفقًا للعرض والطلب، مع تدخل البنك المركزي بصفة دورية كصانع لسوق الصرف، ويحدد أسعار بيع وشراء الجنيه، ويتدخل باستمرار في عمليتي بيعه وشرائه، مقابل العملات الأجنبية.
وقبل أن نتكلم عن تعويم الجنيه المصري نذكر أنه في مايو 1989، استطاعت الحكومة المصرية وضع حد لتشوهات سعر الصرف التي كانت سائدة منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي؛ بتعدد الأسعار، وانتشار السوق السوداء؛ فكان هناك خمسة أسعار: سعر الدولار الحسابي، وسعر الدولار الجمركي، وسعر مجمع البنك المركزي، وسعر مجمع البنوك التجارية، وسعر السوق السوداء.
وكان لكل منها استخداماته؛ فالأول لاتفاقيات الدفع بين الحكومة المصرية والحكومات الأجنبية، والثاني تُحتَسب على أساسه الرسوم الجمركية، والثالث تُحسب به حصيلة الصادرات السلعية، والرابع للتعامل المصرفي، أما الخامس فلا وظيفة له سوى تطبيقه لدى أي سعر من الأسعار الأربعة الأخرى.

وضع الجنيه منذ إصداره بنهاية القرن ال 19

وإذا رجعنا إلى وضع الجنيه المصري منذ إصداره بنهاية القرن التاسع عشر، فإنه لم يمر بأزمة حقيقية حتى عام 1955، حين بدأت النظرة تختلف تجاه الأقتصاد المصري؛ فكانت البداية الحقيقية لتعرض الجنيه إلى الانخفاض أمام الدولار فكان سعر الجنيه بخمسة دولارات وعلى مدار أكثر من 35 عامًا تعرض فيها الجنيه للتدهور الشديد في قيمته؛ حتى جرى أول تعويم في فبراير1992؛ بدمج السوق الأولية والحرة معًا؛ للقضاء على تعدد الأسعار.

تزامن مع هذا التعويم، تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في عام 1991 الذي في نهايته تم القضاء على السوق السوداء، بعد إنشاء شركات الصرافة؛ ما أدى إلى التعامل بسعر صرف واقعي في بداية التعويم؛ فشجع المستثمرين الأجانب على دخول السوق المصرية، إثر وجود سعر صرف حقيقي أتاح محاسبة ومعاملة المستثمرين بالأسعار الواقعية.
وقد شهدت تلك الفترة ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع لتصل إلى 17%؛ ما أدى إلى انحسار ظاهرة دولرة المدخرات، مع ظهور أذون الخزانة التي صدرت في 1991 والسماح للقطاع الخاص بالاكتتاب فيها؛ الأمر الذي شجع كثيرًا من حائزي الدولار على التحويل للجنيه المصري للاكتتاب في أذون الخزانة والاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة علي الجنيه.

وشهدت السوق في هذه الفترة حرية الإيداع والسحب وانتهاء السوق السوداء التي لم يعد لها وجود في مناخ حرية التعامل الرسمي؛ نتيجة زيادة المعروض من الدولار، والسيطرة على معدل التضخم، ومنح عائد إيجابي علي المدخرات بالجنيه المصري؛ إذ بلغ سعر الدولار حينها ما بين 329 قرشًا إلى 332 قرشًا؛ فنجحت التجربة الأولى في تحقيق انخفاض نسبي لسعر الجنيه لمدة 13 عامًا لم يتحرك خلالها أكثر من 10 قروش.

وخلال هذه الفترة، جرت ثلاث حوادث، كان لها أثر سلبي على حصيلة النقد الأجنبي:
– الأولى: حادث الأقصر عام 1997.
– الثانية: أحداث سبتمبر 2001 التي شلت حركة السياحة تمامًا.
– الثالثة: غزو العراق.
ونتيجة لذلك، حدث خلل كبير في موارد النقد الأجنبي، وانخفاض المعروض من الدولار، مع ثبات وتزايد الطلب عليه في بعض الأحيان.

ومع بداية 2003، ظهر سباق محموم بين سعر الدولار في السوق السوداء والبنوك، وبدأ الفارق يتعاظم يومًا بعد يوم؛ ففي يناير 2003 جرى التعويم الثاني للجنيه واعتماد سعر الدولار في السوق السوداء كسعر رسمي وهو 542 قرشًا ليكون السعر الذي يبدأ به التعويم للجنيه مقابل الدولار.

وكان الهدف من هذا القرار معالجة التشوهات، والوصول بالسعر إلى سعر السوق السوداء، ويومها وصفنا -نحن الصحفيين- هذا القرار بأن السوق السوداء تقود أسعار الدولار.

وقد نجح التعويم الثاني إلى حد ما في السيطرة على الأسعار وتوافر الدولار لمدة عشر سنوات، لم يتحرك خلالها بنسبة كبيرة إلى أن وصل سعره في عام 2013 إلى 690 قرشًا، مقابل 542 قرشًا في 2003.
وواصل الدولار الارتفاع؛ حتى بلغ في عام 2016 نحو888 قرشًا، بعد أن ظهرت السوق السوداء مرة أخرى في عام 2015 لتسيطر على السوق إلى أن أصدر البنك المركزي قرار التعويم الثالث في 3 نوفمبر 2016 ليسجل الدولار 13 جنيهًا بدلًا من 888 قرشًا في أكتوبر 2016 . وفي هذا التعويم الثالث أطلق المركزي للبنوك العاملة في مصر حرية التسعير من خلال الإنتربنك؛ لينخفض الجنيه في نوفمبر 2016 وتصبح قيمة الدولار 16.10 جنيه؛ حتى وصل إلى 18.3 جنيه، ثم انخفض بعد ذلك.

سبب التعويم الثالث :

ويرجع سبب التعويم الثالث إلى اقتراض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، والحصول على شهادة الصندوق لإعادة الثقة في الاقتصاد المصري؛ حتى يُتاح لمصر التعامل مع مؤسسات التمويل الدولية.
وأدى هذا التعويم إلى انحسار السوق السوداء، والتعجيل بالحصول على قرض الصندوق، ولكنه ترك آثارًا سلبية على تكلفة المعيشة؛ فخسر المواطن نصف قوته الشرائية، وارتفع معدل التضخم في بداية التطبيق.
ولم ينجح قرار التعويم في القضاء على تعدد الأسعار، بل وبقيت السوق السوداء تعمل في الخفاء على استحياء إلى أن عادت إلى الظهور بقوة مع بداية 2021.
ومع بداية 2022 اشتدت أزمة النقد الأجنبي، وظهرت حاجة مصر إلى الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي بمبلغ 3 مليارات دولار، يتيح حزمة تمويلية من مؤسسات التمويل الدولية بقيمة 16 مليار دولار.
وخلال عام 2022 ظهرت السوق السوداء مرة أخرى، وواصل الدولار الارتفاع ليسجل في الربع الثالث من العام الماضي 20 جنيهًا؛ فكان قرار التعويم الرابع في تاريخ الجنيه المصري الذي كان سيد العملات على مدار أكثر من 70عامًا؛ لتقود السوق السوداء سوق الصرف، ويواصل الدولار والعملات الأجنبية الرئيسة ارتفاعات متتالية، مقابل الجنيه؛ ليسجل 30.60 جنيه، ومازال مرشحًا للانخفاض رغم الهدواء النسبي في سوق النقد الأجنبي؛ وذلك لمحدودية النقد الأجنبي، وارتفاع الفجوة التمويلية من الدولار.

قرار التعويم الرابع في غاية الخطورة

ويعد قرار التعويم الرابع في غاية الخطورة؛ إذ كان له آثار سلبية خطيرة تسببت في تدهور الأوضاع الاقتصادية للأسر المصرية، وارتفعت أسعار السلع والخدمات، مع عدم قدرة الحكومة على السيطرة على الأسعار، وحدوث ركود تضخمي، علاوة على ارتفاع تكلفة الإنتاج، وخدمة الديون.
لقد شكَّل هذا التعويم، ولأول مرة ضغوطًا متزايدة على المواطن، مع حدوث ضائقة مالية كبيرة على المستوى العام.
ومازالت التأثيرات السلبية لقرار التعويم الرابع مستمرة؛ فارتفاع الأسعار حدَّ من قدرة المواطن على تحمل وضع المعيشة المتردي، مع تضخم كبير يتسم بالانفلات الشديد في أسعار السلع والخدمات، وظهور أو شيوع ثقافة الاستغلال والربح السريع لدى بعض التجار والمنتجين، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وأصبح المستهلك هو وحده من يدفع ثمن قرارات التعويم المستمرة.

لقد أدت الارتفاعات المتتالية في الأسعار إلى موجة تضخم كاسحة، تضرر منها معظم فئات المجتمع.
إنَّ عمليتي التعويم الأخيرتين دفعتا بالاقتصاد المصري إلى حالة ركود شديدة، أطاحت بأحلام معظم فئات وشرائح المجتمع، وترتب عليها عدم القدرة على توفير احتياجاتهم المعيشية.

إنَّ من اتخذ قرار التعويم الأخير لم تكن لديه نظرة اقتصادية صائبة تخدم الجنيه وتحافظ على مستويات المعيشة، بل أشبه بمن حرك المركب كي تعوم في بحيرة خالية من المياه!
ولا شك في أنَّ قرارات التعويم كان الدافع لها عدم وجود مصادر دولارية ناشئة عن أنشطة إنتاجية؛ ما دفع الحكومات المتعاقبة على مدار هذه المدة إلى كبح جماح الدولار أمام الجنيه بشتي السبل، ما بين سياسة تعويم، وبيع أصول واستدانة.

والأخطر الآن في سعي الحكومة إلى طرح 20 شركة و3 بنوك للبيع في البورصة أو لمستثمر رئيس؛ للتغلب على الفجوة الدولارية؛ وبالتالي لا يمكن أن يظل الجنيه على هذا الوضع، أو يعود لقيمته الحقيقية التي كانت متعاظمة قبل منتصف خمسينيات القرن الماضي حين كانت قيمته جنيهًا ذهبيًا ونحو قرشين ونصف، وظل لأكثر من 70 عامًا سيد العملات.

قاعدة صناعية إنتاجية متميزه

ولن تعود للجنيه لمكانته إلا بإنشاء قاعدة صناعية إنتاجية متميزه قابلة للتصدير، والجمع بين الصناعات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر؛ لإحداث توازن بين الصادرات والواردات، وزيادة قيمة الصادرات إلى 150 مليار دولار .
حينها فقط، سيعود الجنيه إلى قيمته وقت الإصدار الأول؛ أما إذا استمرت عملية ترقيع الاقتصاد، والاعتماد على بيع الأصول، سيبقى التساؤل الذي لا إجابة عنه: ماذا بعد التعويم؟


رئيس تحرير الاهرام المسائى سابقا ووكيل نقابة الصحفيين – مصر





مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى