أخبارخدماترئيسيمحاصيلمقالاتمنوعات

الدكتور محمد المليجي يكتب : رحلة مع بذرة فول

تمر كل يوم في الصباح بعربة فول يتجمع حولها ناس من كل الاعمار ومن كل الوظائف لتناول طبق او سندوتش فول وهم في طريقه للشغل. لو سألت أي منهم عن الفول الذي يأكله لن يعرف منه الا طعمه ورائحته وقدرته على سد الجوع لفترة طويلة. بالطبع يعرف ايضا كيف يتم تدنيس او طبخ الفول ليكون بهذا الطعم في القدرة ولكن لو سألته ما هو الفول كنبات او مالذي يأكله بالظبط وكيف تم انتاجه لن يجيبك وهو معذور بالطبع فلا يعرف الفول الا في الطبق او في السندويتش.

ليس هذا فقط فحتى الذي يزرع الفول لا يعرف الا ان الفول بذور يتم ريها وتسميدها لتكون نبات يكبر وينتج قرون بها بذور يحصدها ليبيعها وانتهت القصة.

ولكن الفول البلدي والمسمي علميا ب Vicia fabae قصة وخلق عجيب بحد ذاته به غرائب ومعجزات يصعب حصرها وتفصيلها في مقال قصير مثل هذا. ليس الفول وحده ولكن كل نبات يعتبر حالة خاصة وخلق فريد تفرد له مراجع لوصفه وفهم حياته.

سآخذك معي في رحلة مع بذرة فول من قبل ان تزرع حتى تنبت وتعطي بذور فول مثلها يتم فيما بعد صبرها لتقدم لهؤلاء الذين تراهم كل يوم حول عربة الفول لا يعلمون شيئا عن مصدر هذا الفول وكيف وصل إليهم.

بذرة الفول نفسها والتى يبلغ حجمها اقل من طرف اصبعك هي عبارة عن تركيب يشبه القلعة الضخمة التى لها ابواب وشبابيك سرية واخري واضحة. بذرة الفول تحتوي من الداخل الجنين وهو نبات مجهري صغير له جذير (تصغير جذر) وريشه (ساق صغير) وفلقتين وهما جبلين من الغذاء المخزن بالبذرة ويشكلان ٩٥٪؜ من وزن البذرة، تحاط البذرة بطبقة سميكة شمعية الملمس غير منفذة للماء تسمي القصرة.
تبدو لك البذرة وكأنها مضغوطة من جانب لها واذا دققت ستجد منطقة سوداء طويلة وهي موضع اتصال البذرة بالقرن وتسمي بالسرة بينما تختفي على بعد ليس بكثير عنه نقطة قاتمة وهي باب سري والوحيد في غلاف البذرة الذي يمكن ان يدخل منه الماء ويسمي بالنقير. هذا النقير او الثقب الدقيق في اقرب نقطة من المنطقة المنبعجة للداخل والتى تحتوي الجنين.

البذرة نفسها مصممة لتحمي الجنين من الصدمات بوضعه في منطقة منبعجة للداخل وحمايته من العفن بالقصرة غير المنفذة للماء وبتوفير مخازن للغذاء في الفلقات التى ياكلها البشر كافيه للجنين حتى ينبت ويكون عدة اوراق تعينه النبات على عملية البناء الضوئي.

ماذا يحدث للبذرة عندما تدفنها في التربة وترويها بالماء ؟

خلال ساعات قليلة تحدث معجزات تحت سطح التربة فتمتص البذرة الماء من خلال النقير وعملية الإمتصاص نفسها لم تكن لتحدث لولا خاصية التشرب والشراهة للماء الموجودة فى المواد المكونة للفلقات. يتمدد النشا وما به من مواد راتنجية وتنتفخ البذرة ويصل حجمها ثلاث او اربع مرات الحجم العادي فتمزق القصرة غير المرنة ويظهر الجنين كالجن يخرج من مصبح علاء الدين.

انتفاخ البذرة يشق الأرض ليفسح الاكسجين ويفتح مجال للجنين لينبت ويظهر فوق سطح الارض. تكون عملية الإنبات حدث عظيم يغير من فسيولوجيا الحياة في البذرة فيحول السكون الى ثورة من العمل الإنزيمى النشط، وهنا تلعب درجة الحرارة والماء الدور الكبير في الاسراع في عملية النبات او وأدها في مهدها. توفر الماء بالقدر المناسب والحرارة المناسبة شرط لإستكمال عملية الإنبات.

لهذا نجد محاصيل شتوية كالفول والقمح ومحاصيل صيفية كالقطن والارز لان بذورها لا تنبت وتستمر في النمو الا في درجات حرارة معينة.

يستمر نمو الفول ولكن جذور الفول الممتدة في التربة تختلف كثيرا عن محاصيل اخري في الشكل. عندما تفحص جذور الفول ستشاهد تراكيب عجيبة تظهر عليها وكأنها حلمات بيضاء معلقة كحبات السبحة. هذا لا تراه في غالبية النباتات وتنفرد به نباتات الفول ونباتات العائلة البقولية تقريبا.

ينزعج البعض برؤية هذه الاورام على جذور الفول ظنا من انها مرض، ولكنها في الواقع خير وخصوبة للتربة يقدمها الفول هدية لكل تربة يزرع فيها. انها ما نسميه بالعقد الجذرية وهي انسجة تعيش فيها البكتيريا المثبته للنيتروجين. هذه البكتيريا تعيش قصة حب مع جذور الفول وتعشقه كهؤلاء الذين يقفون كل صباح على عربة الفول. ولكنها تفيد وتستفيد فهي تأخذ النيترجين الغازي من الهواء وتحوله الى سماد نيتروجيى يسد حاجة النبات ويغني التربة بهذا العنصر المهم، بينما تستفيد البكتيريا بالسكر الذي يكونه النبات بالبناء الضوئي. هذه العلاقات التعاونية بين المخلوقات الدقيقة والنباتات موجودة في صور كثيرة.

عندما يكبر الفول ويصل الى طور الإزهار يكون زهرة غاية في الجمال والابداع الهندسي. تسمي بالزهرة الفراشية لانها تشبه الفراشة.

زهرة الفول مصممة كالمرجيحة لأن هبوط الحشرة على بتلاتها الجميلة يضغط عليها فتبرز اعضاء التذكير وتلوث جسد الحشرة بحبوب اللقاح التى تنقلها من زهرة الى اخري بملامسة عضو التأنيث فى الزهرة الاخري.

لذلك يكون العامل الاول فى تكوين الحبوب هو نجاح التلقيح بين الازهار ووفرة الحشرات التى تقوم بذلك. إن قضينا تماما على الحشرات الملقحة بالمبيدات التى قد تكون مستخدمة فى حقل مجاور لن يكون لديك محصول فول تقريبا. عدد حبوب الفول في القرن يعتمد على نجاح عملية التلقيح.

عند حدوث الإخصاب الكامل يتحول مبيض الزهرة الى قرن صغير به بذور دقيقة مرتصة في سرير كالحرير وبدقة بالغة من حيث المسافات بين الاطفال الجدد وتوزيع الغذاء عليهم من خلال الحبل السري الممتد بطول القرن.

يصبح القرن كحضانة اطفال تتولى امهم رعايتهم بدقة وحرص شديد على توفير غذائهم وعدم ازعاجهم. يصبح قرن الفول الاخضر ممتلأ بالبذور الغضة التى تحاط بطبقة كثيفة من الشعيرات تحمي الأطفال الصغار من الاحتكاك ببعضهم وتوفر لهم الرطوبة رغم انهم مربوطين في القمة بالحبل السري غير قادرين على الحركة حتى النضج.

قبل الحصاد يجف قرن الفول وتنضج البذور وتتصلب القصرة والفلقات وتصبح البذور قوية كالحصى استعدادا للرحيل من الحقل الى الحصاد والمخازن وهي رحلة شاقة للغاية تتعرض فيها البذور للصدمات وظروف الحرارة والرطوبة المتطرفة احيانا ولكنه تكون مستعدة لذلك تماما فتدخل في فترة سكون لا تنبت فيها بسهولة الا فيما ندر. من الصعب ان تدفع بذرة فول على الانبات بعد الحصاد مباشرة.

هذه قصة بذرة الفول التى نأكلها كل يوم ولا نعرف الكثير عن مصدرها وكيف وصلت الى طبق الفول.


ا. د محمد المليجي – استاذ علم أمراض النبات – مصر





مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى