الدكتور على عبد الرحمن يكتب : معضلة الأمن الغذائي وميزة المياه الأفتراضية
ازداد الاهتمام بموضـوع الأمـن الغذائــي منذ عــام 1974، وهى السنة التي حدثت بها أزمة الغـذاء العالمـي، وقد أعطيت تفسيرات عديدة لأسباب هذه الأزمة، ولعل عجز المعروض وانخفاض المخزون الغذائي العالمي خاصة من الحبوب كان أكثر التفسيرات شيوعا ومنطقية.
وخلال هذه الأزمة وجدت البلدان الناميــة المســتوردة للغذاء (واغلبها كان في هذا الوضع) في أزمة نتيجة عدم تمكنها من الحصول على احتياجاتها من السوق العالمي، أما نتيجة ضعف مواردها من النقد الأجنبي الضروري للاستيراد لارتفاع الأسعار أو عدم اتاحة الحبوب في السوق العالمي. من هذا التاريخ بدأ ظهور الأمن الغذائي كاستراتيجية رئيسية من مكونات استراتيجية الأمن القومي.
من هنا كانت الدعوة لتبني سياسة الاكتفاء الذاتي خاصة من الحبوب واعتبارها الوسيلة الرئيسية لتحقيق الأمن الغذائي، وقد نجحت الكثير من الدول النامية المستوردة للغذاء في تحقيق الاكتفاء الذاتي خاصة بعد تبنيها برنامج الثورة الخضراء Green Revolution واستخدامهــا للأصناف المستنبطــة من مراكز البحوث الدولية مثل السميـت وايري (المركز الدولي لبحوث القمح والذرة والمركز الدولي لبحوث الأرز)، ومعظم البلدان التي حققت نجاحا كبيرا في ذلك كانت الدول الآسيوية وعلى رأسها الهند والتي توسعت في هذا البرنامج ليغطى سلعا أخرى غير الحبوب.
وتفاقمت أزمة الغذاء عالميا في الفترة الأخيرة لأسباب عديدة منها تناقص مساحات الأراضي الزراعية نتيجة الزحف العمراني عليها، وشح موارد المياه، وتوسع البلدان في استخدام الحبوب لإنتاج الوقود الحيوي خاصة مع التزايد المتسارع في أسعار النفط.
وقد ترتب على ذلك اتجاه أسعار الغذاء إلى الارتفاع بشكل كبير في السنوات الأخيرة الأمر الذي أصبحت تنوء به ميزانيات الدول وموارد الأفراد.
توسع فى الصناعة على حساب الزراعة
ولقد أهملت الزراعة مع التوسع في الاتجاه للتصنيع.، رغم تتوافر إمكانيات كبيرة للتوسع في إنتاج الغذاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي منه وخاصة من القمح والذرة والأرز والسكر والبذور الزيتية واللحوم.
ويعد نقص الموارد المائية المحدد الرئيسي للتوسع في إنتاج الغذاء(تشكل الموارد المائية في العالم العربي 1% من الموارد المائية العالمية في حين تشكل مساحة الوطن العربي 10% من مساحة العالم و5% من سكانه).
كذلك يستدعي زيادة أمن المواطن غذائيا زيادة الاستثمارات في مجال الزراعة، وإنشاء مخزون استراتيجي غذائي.
بصدد تحقيق الأمن الغذائي، في أقامة آلية يعهد إليها بإقامة مشروعات كبيرة في مجال إنتاج : الحبوب ، والحبوب الزيتية، واللحوم ، وتقوم هذه الآلية ، بالاستعانة بالخبراء المختصيين بما يلي :
1. تحديد نوعيات المنتجات الغذائية التي يحتاج إلى زيادة إنتاجه منها حتي يقل اعتماده في توفيرها على العالم الخارجي.
2. تحديد المواقع الجغرافية الأكثر مناسبة لإنتاج كل نوع من هذه المنتجات.
3. توفير الإطار الإداري الأكثر مناسبة لإدارة كل نوع من هذه المشروعات.
4. توفير التمويل اللازم لتنفيذ المشروعات.
5. وضع الآليات المختلفة لتسويق منتجات هذه المشروعات، بما يكفل سد احتياجات المختلفة من كل نوع من هذه المنتجات.
وعلى الرغم من تغير الظروف المحلية والإقليمية والدولية فما زال الاكتفاء الذاتي من الغذاء يمثل هدفا من أهداف السياسة الزراعية، فضلا عن جانبه السياسي واعتباره تعبيرا عن الاستقلال السياسي، وهذه السياسة عادة ما تكون مخالفة لمبدأ للميزة النسبية في استغلال الموارد الطبيعية والمالية بما يؤدي إلى انخفاض الكفاءة الاقتصادية.
كما أن هذه السياسة تستهدف التأمين ضد مخاطر عجز المعروض من الغذاء، وقد يكون هذا العجز نتيجـة للحصار الاقتصادي او عجز في الإنتاج العالمي أو غير ذلك، وهذه المخاطر أصبحت ليست ذات موضوع خاصة بعد انفتاح العالم اقتصاديا وتجاريا، كما انه من الناحية العملية لايمكن لدولة أن تحقق الاكتفاء الذاتي بصفة مستدامة نتيجة لتغير الظروف الطبيعية المؤثرة على الإنتاج.
تطور مفهوم الأمن الغذائي
كما ان دولة ما قد تحقق الاكتفاء الذاتي على المستوى الكلي، ولكن قد يكون لديها فئات من المجتمع تعاني من نقص الغذاء والجوع، ولذلك تطور مفهوم الأمن الغذائي من الاكتفاء الذاتي الى كفاية جميع افراد المجتمع من السلع الضرورية، وأصبح مفهوم الأمن الغذائي له أربعة أركان هي:
أولا: إتاحة المعروض من الغذاء سواء من الإنتاج المحلي أو السوق
العالمي Food Availability.
ثانيا : استقرار المعــروض من الغذاء على مدار السنة ومن موسم
لآخر Food Stability
ثالثا : إتاحة الغذاء للمواطنــين وتناسـبه مع
دخولهـــمFood Accessibility
رابعا: سلامــة الغــذاء Food Safety
ويعني ذلك أن يحصل كل مواطن على احتياجاته الغذائية الضرورية على مدار السـنة دون حرمان سواء كان هذا الغذاء من الإنتاج المحلي أو مستورد.وهذا المفهوم للأمن الغذائي ينتقل بنا من مفهــوم الاكتفاء الذاتي إلى مفهوم الاعتماد على الذات Self-Reliance وهذا يعني قيام الدولة بتوفير الاحتياجات من الغذاء من إنتاجها المحلي فضلا عن توفير النقد الأجنبي لاستكمال احتياجاتها من السوق العالمي. وهذا النقـد الأجنـبي بالضرورة يكون من خلال امكانيات ذاتية تتمثل في صادرات السلع والخدمات.
وإذا أرادت مصر ان تنتــج كامل غذائها هل يمكنها ذلك أو أن هناك محددات لتحقيق ذلك، ماهى هذه المحددات ؟ طبيعية – راسمالية – ادارية – بشرية؟ او بمعنى آخر هل يمكن للدول العربية تحقيق الاكتفاء الذاتي من جميع أنواع الغذاء؟
ويعتبر استيراد الغذاء ضمنيا استيرادا للمياه اللازمة لإنتاجها ومن هنا تأتي أهمية المياه الافتراضية Virtual Water، وعلى اى دولة ان توازن بين وارداتها وصادراتها من أنواع الغذاء فتقوم باستيراد السلع ذات الاحتياجات المائية المرتفعة وتقوم بتصدير السلع ذات الاحتياجات المائية المنخفضة وبذلك يمكن أن تحقق وفورات في المياه نتيجة للتجارة.
وفي هذا الشأن فإن مصرعليها رفع انتاجيتها من المياه لزيادة تنافسيتها ودراسة النواحى الاقتصادية والتجارية خاصة في مجال الاتفاقيات الدولية المؤثرة على تجارة الغذاء خاصة وانها تزداد اعتمادا على الواردات لتحقيق أمنها الغذائي.
كما نعتقد ان موضوع المياه الافتراضية وأهميته لمصر موضوع يستحق الدراسة والبحث لتوجيه سياسة المنطقة في مجال الإدارة المتكاملة للمياه IWM وادخال العائد الاقتصادي في توجيه استخدام المياه بين الاستعمالات المتنافسة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن زيادة أمـن المواطن غذائـيا يستدعي زيادة الاستثمارات في مجال الزراعة، فالمدخل التجاري للتكامل وحده من خلال ما تم في منطقة التجــارة الحــرة العربية الكــبرى بإلغــاء الجمارك، لن يؤدى الى التكامل المنشود.
فالتجارة لتكون فعالة تستلزم إنتاج غذائي كاف ومتنوع من خلال استثمارات في حدود الموارد المائية المتاحة. وفي مرحلة تالية يحتاج الأمر الى مزيد من الاستثمـارات الخاصة في مجال التجهيز والتسويق والنقل، ثم في مرحلة ثالثـــة الاستثمـار في الموارد وفقا للميزة النسبية.
وهذا الأسلوب سيؤدي الى زيادة قدرة المواطـن في الحصول على السلع الغذائية (زيادة المعروض) وفي نفس الوقت زيادة دخله عن طريق التنمـية (عن طريق زيادة دخله). ولابد في هذا الإطار ان تقوم على المستوى القطري أو العربي
وإذا أمكن بإنشاء مخزون استراتيجي غذائي لمواجهة عجز المعروض من الغذاء محليا أو من خلال الاستيراد، وهذا المخزون يحقق الاستقرار والأمان للمجتمع من المعـروض من الغذاء والتأميـن ضد مخاطر تقلبات الظروف الجوية.
أ.د / علي عبدالرحمن علي – مستشار وزير التجارة الأسبق