الإنسان بطبيعته اجتماعي لا يستطيع العيش وحيداً ولابد أن ينتمي إلى جماعة يستمد منها القوة والأمن والطمأنينة ويسهم مع الآخرين في تحقيق الخير والمعيشة الكريمة . والإنسان بحاجة إلى سلطة ضابطة لسلوكه الاجتماعي . ووسائل الضبط التي تحقق هذه الغاية تتمثل في : الدين ، والقانون ، والآداب العامة ، والأعراف ، والعادات ، والتقاليد وأشاربن خلدون في مقدمته إلى الضبط الاجتماعي بقوله : « إن الاجتماع للبشر ضروري ولابد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه ، وحكمه فيهم إما أن يستند إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه ، أو إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليه ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم ، فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة ، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط
ويشير مصطلح الضبط الاجتماعي إلى الآليات أو العمليات التي تنظم سلوك الفرد والجماعة كما يشير إلى قيادة الأفراد في المجتمع وإلى الامتثال لقواعد وأوامر معينة.
وهناك عدة اشكال من الضابط الاجتماعى وهى: (ضابط داخلى للانسان نفسة مثل الضمير والاخلاق – وضابط خارجى مثل الاعراف والتقاليد والقانون – وضابط ايجابى مثل المدح والعبادات والتحفيز والثناء- وضابط سلبى مثل العقوبات والحدود والتهديد) .
أما مفهوم الضبط الاجتماعي من منظور إسلامي فهو يتضح في إدراك أن الإنسان لم يخلق في هذه الحياة عبثاً وانما خلق للعبادة الخالصة لله وحده وخلافة الأرض وعمارتها ، وهذا يقتضي أن يلتزم الإنسان بالضوابط المحددة لسلوكه والتي تضمن له ولمجتمعه الخير والسعادة وتحفظهم من الشرور وتحقق لهم الأمن والاستقرار وتقيهم من الانحراف والفوضى .و يتدرج الضبط الاجتماعي في الإسلام بدءاً من الانضباط الذاتي للمسلم الذي يراقب تصرفاته ويحسن سلوكه مع الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ; ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وخضوع الفرد لتعاليم ومنهج الإسلام فى تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه في السر والعلن ليس خوفاً من السلطة ولا نفاقاً للمجتمع ، وإنما حباً في هذا النظام وإيماناً واقتناعاً بمبادئه ، وهذا بدوره يزيد من طاقة الفرد وشعوره بالانتماء للجمـاعة
وينطوي الضبط الاجتماعي في الإسلام على معنى الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى ، والطاعة قد تكون فردية أو اجتماعية . والمراد بالطاعة الفردية كل ما يقوم به الإنسان بإرادته الشخصية امتثالاً لأحكام الله المتعلقة بحياة الإنسان ذاته ، قال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً (. والطاعة الاجتماعية هي امتثال أفراد المجتمع للأحكام الشرعية الاجتماعية التي جاء بها الإسلام ويباشرها الحاكم أو ولي الأمر قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )
أساليب الإسلام في ضبط المجتمع ،
ويمكن تقسيم الضوابط الاجتماعية في الإسلام إلى أربعة مجالات ، تشمل جميع جوانب حياة الفرد وعلاقته بالجماعة ، ويتضمن كل مجال مجموعة من الضوابط ، وهذه المجالات هي :
1 – العبادات :
إن العبادات في الإسلام تعتبر ضوابط اجتماعية إيجابية فهي ليست مفروضة لمجرد التعبد ، وإنما لتنظيم وضبط علاقة الفرد بالله ، ولتنظيم معاملات وعلاقات أفراد المجتمع بعضهم بالبعض الآخر . فالصلاة مثلاً ، تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (إن الصلاة تنهى عن الفحشـاء والمنكر )( العنكبوت:45) فهي وإن كانت فريضة دينية ، إلا أنها تهدف إلى ضبط السلوك الإنساني وتطهير النفس وردعها عن الرذائل ،وقد شبه الرسول الكريم أثر الصلوات الخمس في تطهير النفس قال : (” أرأيت لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه في يومه خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فكذلك الصلاة ) مما سبق نرى أن العبادات تخدم المعاملات ،كذلك الصوم يهذب النفس ويشعرها بمرارة الحرمان فيجود الفرد على البائس والمحروم ، والزكاة تذهب أساساً للمحتاجين على اختلاف أنواعهم ، والحج لا يخرج الفرد إليه إلا بعد أداء ما عليه من واجبات نحو الآخرين
2- المعاملات :
وهى مجموعة من القواعد والعلاقات والضوابط الاجتماعية تتعلق بنظام الحكم ، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين ، وانطوت على كثير من الضوابط القانونية التي تعتبر من طبيعة مدنية ، مثل قواعد العقوبة على الجرائم الاجتماعية كالقتل أو الشروع فيه ، والسرقة وجريمة الزنا ، كما انطوت على ضوابط حتى فيما يتصل بالأطعمة والأشربة من حيث إباحتها أو عدمه كتحريم أكل الخنزير وشرب الخمر
كما وضع الإسلام في شئون الاقتصاد نظماً حكيمة ، تقر الملكية الفردية وتحيطها بسياج من الحماية ، وتذلل أمام الفرد سبل التملك والحصول على المال ) هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (الملك:15) وشجع الإسلام على العمل ، وفسح المجال أمام المنافسة الشريفة ، وبذلك يتحقق للناس تكافؤ الفرص ، ولكن من جهة أخرى فإن الضوابط الاقتصادية في الإسلام تكبح رأس المال وتجرده من وسائل السيطرة والنفوذ بدون أن تعوقه عن القيام بوظيفته ، وتعمل على استقرار التوازن الاقتصادي وإذابة الفوارق بين الطبقات ، وتحول دون تضخم الثروات . وتقوم العلاقات الاقتصادية في الإسلام بين الناس على دعائم متينة من التكافل والتعاون والتواصي بالبر والإحسان ، وتضع أمثل نظام للضمان الاجتماعي
ومن مظاهر الضبط في الإسلام النهي عن قول الزور واتهام الآخر ظلماً ،ويتضح ذلك في قوله تعالى); ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم بها بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً; (النساء:112) ، وأمر بالعدل في جميع الأحوال ، فبالعدل يستقر المجتمع وينتشر الأمان : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً; (النساء:135) ونلاحظ في كل مرة مخاطبة الإسلام للنفس والضمير الإنساني حيث يتذكر الإنسان رقابة الله في كل ما يقوم به
وهكذا يتضح ضبط الإسلام للمعاملات بين الناس وخاصة ما يتعلق منها بالكليات الخمس والتي حرص الإسلام على حفظها ، وضمن لها حقوقها ، وتتمثل هذه الكليات في : حفظ الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال . وسوف نتعرض لهذه الكليات وحفظها بشيء من التفصيل عند حديثنا عن ضبط العقوبات في الإسلام .
3- الآداب والأخلاق :
اهتم الإسلام بالمجتمع والتكافل الاجتماعي ، فنهى عن البغيضة والظلم والعدوان بين المسلمين ، ووضع لذلك ضوابط عديدة . وقبل كل ذلك شدد على الأخوة الإسلامية التي من خلالها ينبع كل فعل سليم ، وكل خلق كريم); إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم (الحجرات:10) ورسم الإسلام الإطار العام لطبيعة العلاقة بين المؤمنين بقوله تعالى; والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (التوبة:71) .
ويدعو الإسلام إلى مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين كما بلغ النبي الكريم (” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )” ويضع لذلك ضوابط كثيرة ، والقرآن مليء بمثل تلك الضوابط الاجتماعية ، نذكر منها على سبيل المثال :
في آداب الزيارة ; يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غر بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها (النور:27) . وفي آداب المجالس :; يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم (المجادلة:11
وقد بلغ من حرص الله على عبده المؤمن أن حماه من التعرض لأي أذى ولو بمجرد الكلام أو الإهانة أو السخرية أو الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب ، كما نهى عن ظن السوء بالمؤمن والتجسس وتتبع عوراته ويتضح ذلك من قوله تعالى ); يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ، يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن سوء ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (الحجرات:11،12)
ونلاحظ التركيز على روابط الإيمان والأخوة عند الحديث في القرآن عن الآداب والمعاملات بين المؤمنين ، مما يؤكد حرص الإسلام على مخاطبة المشاعر وتكوين الضمير ومراقبة النفس وضبطها ذاتياً قبل أن تضبط خارجياً .
وكما دعا الإسلام إلى السمو بالآداب الإنسانية ، دعا كذلك إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة من كرم وحلم وعفو وغيرها; الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين; (آل عمران:134) ، ونبذ الصفات المقيتة التي تؤدي إلى النفاق من كذب وغدر وخيانة وخلف للوعد فقد ذكر الرسول الكريم; صفات المنافق : ) أربع من كن فيه كان منافقاً ، ومن كان فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا أؤتمن خان (
والحديث عن ضوابط الأخلاق والآداب في الإسلام لا يمل ولا ينقطع ، فالإسلام سعى إلى تكوين الشخصية الصالحة الكاملة المتكاملة ، الإنسان المسلم المتصف بفضائل الأخلاق ، المبتعد عن رذائل الصفات ، المعتدل في سلوكه ، المؤهل لدعوة الناس في كل زمان ومكان إلى الحق والفلاح ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً البقرة:143) .
4- العقوبات :
يستخدم المجتمع لحماية نفسه من الجريمة نوعين من الضوابط : المنع والردع ، وقد أقر الإسلام هاتين الوسيلتين واستخدمهما ، ووسيلة المنع تمنع المجرم من الاعتداء ، فهي وسيلة حماية للمجرم والمجتمع على السواء ، فلا يصبح المعتدي مجرماً ، ولا ينال المجتمع اعتداءً . ويتضح اهتمام الإسلام بهذه الوسيلة والتركيز على المنع عن طريق تكوين الضمير المسلم الواعي السليم ( كما سبق أن بينا ) . أما وسيلة الردع فيلجأ إليها الإسلام مع أصحاب النفوس المريضة والضمائر المتبلدة ، وهنا جعل الإسلام العقوبات المتنوعة رادعة لأولئك النوع من البشر ، فالإسلام يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب معاً ، فلا يركز على الترغيب وحده لأن ذلك قد يؤدي إلى سيطرة الأمل في رحمة الله فيدعوها إلى التواكل والتهاون ويفضي بها إلى الأمن من مكر الله ، بينما الترهيب وحده قد يؤدي إلى طغيان الرهبة على النفس فتيأس من روح الله مما يفضي إلى القنوط من رحمة الله ، لذا يسلك الإسلام مسلكاً وسطاً
وتصنف العقوبات في الإسلام إلى ثلاثة أنواع :
1- الحدود : وتشمل أفعالاً محرمة شرعاً بما فيها تحديد نوع وكم العقوبة المقررة لكل منها على حدة صراحة وتفصيلاً في القرآن والسنة . ومنها : حد الزنا ، والسرقة ، والردة .
2- التعازير : وتشمل الجرائم التي ترك أمر تحديد نوع وكم عقوبتها المقررة بناءً على رأي أولياء أمور المؤمنين طبقاً لمتطلبات المصلحة واعتباراً للتغير الزماني والمكاني .
3- القصاص : ويشمل الجرائم التي تتعلق بالإصابات البدنية أو الاعتداءات على الأرواح والأعضاء ، وهنا لا يتطلب الأمر أن تتطابق عقوبة الحد مع نوع الضرر المادي فقط بل قد تتجاوزه إلى آثاره المعنوية أيضاً وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص (المائدة:45 .
والحدود هي حق خالص لله ، ولا يسمى القصاص حداً لأنه حق للعبد ، كما لا يسمى التعزير حداً لأنه مقدر من ولي الأمر وليس من الله تعالى ). وتبرز حكمة الإسلام ونظرته العميقة للمجتمع ، حيث جعل الحدود جزاءً رادعاً لجرائم خطيرة تمس أمن المجتمع ، وجعل القصاص مساواة تامة بين الجرم والعقوبة ، أما التعزير فقد جعله أمراً متروكاً لاجتهاد العالم المسلم فيراعي طبيعة المجرم والجريمة والظروف المحيطة