مجدى حسين يكتب : اصنــع لـك كهفـا.. ( رسائل الإيمان)
ليس من الضرورى أن تنتظر حتى تفرض عليك العزلة عن الناس بالقوة الجبرية (السجن), بل عليك دائما أن تصنع لك كهفك الخاص الذى تأوى روحك إليه، فاللؤلؤة الجميلة فى قاع البحر لا تعيش ولا تنمو إلا داخل قوقعة محكمة، وكل الكائنات خلق الله لها درعها ونظامها الخاص للحماية، قد تكون فى اللون أو الحجم، أو ما تنطوى عليه من جهاز ردارى أو من أسلحة متنوعة, وكلها تحقق معنى (الدرع الواقى) .
والكهف الذى تبنيه لنفسك، هو كهف افتراضى، تبنيه حول روحك بحيث يقيها الأشعة الضارة المنبعثة من الناس. الإسلام يرفض العزلة المادية عن الناس، حتى وإن كان هدفها التفرغ للعبادة. لأن هدف الدين هو إصلاح الدنيا بمبادئ وقيم الدين.
لذلك عندما أمر الله الملائكة أن تدمر قرية جاحدة بأنعم الله، قالوا له إن فيها عبدا متفرغا ومنقطعا للعبادة، فقال لهم الله عز وجل ابدأوا به فإنه لم يتمعر وجهه مرة من أجلى قط. فالعزلة عن المجتمع وتركه نهبا للفساد وانتهاك شرائع الله، ليس من الإسلام فى شىء, ولكن المقصود هو العزلة النفسية عن موبقات الدنيا وسخافاتها ومهاتراتها، وسخافات القوم التى لا مفر منها فى الحياة، والتى يشير إليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها. إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم) الترمذى, وبالتالى فإن المؤمن يمر فى يومه بحقول ألغام، وأفخاخ عدة, ومهمته أن يمر بها وكأنه لا يراها (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).
والمؤمن يصنع كهفه أو درعه الخاص، بتقوى الله التى تغذيها العبادة (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (ق: 39-40).
إذن المطلوب العزلة المادية والمعنوية عن اللغو. . عن الهيافات والتفاهات والنميمة والمسلسلات التافهة والبرامج الأكثر تفاهة, وكما ذكرت فى رسالة سابقة فإن الإسلام لا ينهى عن اللهو البرىء, والذى لا يجرح أحدا ولا يسىء لأحد, ولا يخرج عن حدود الآداب، ولكن أيضا هناك نسبة مئوية حتى لهذا اللهو, فإذا زادت عن 1-5% مثلا من زمن اليوم فمعناه أن المعادلة مختلة.
وقد قال رسول الله مرة لأصحابه ما معناه إذا عرفتم ما أعرفه لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا, ويقصد ما أطلع عليه من غيب الآخرة. ومن يتعامل مع الآخرة – فى حدود ما نعلمه من القرآن الكريم – يكفى كى يأخذ الدنيا بمنتهى الجدية.
هذا هو المحور العام لملوثات البيئة التى نحتاج لكهف خاص للابتعاد عنها وتوقى شرها، وهى عزلة بالمعنى المادى والروحى معا.
أما المحور الثانى، الذى يتعرض له المجاهدون، فهو حملات الإساءة التى يشنها عليهم المنافقون وضعاف النفوس، والمتراجعون عن الجهاد (ليبرروا مواقفهم) بالإضافة للأعداء الأصليين للإصلاح من أهل الحكم.
والمطلوب إزاء هذه الحملات عزلة روحية ونفسية، بمعنى عدم التأثر بهذه الحملات، بحيث لا تفت فى عضد المجاهدين، وأن يدركوا سوء مراميها وسوء نيتها، وأن الأكاذيب ليس لها مستقبل، وأن الحقائق ستفرض نفسها فى النهاية, وإن هذه الإهانات من ضريبة الجهاد, وأنها مبعث للحسنات, بل ومطهرة من الذنوب, وهذه الحملات التى يواجهها المؤمنون بغلاف كثيف من العزلة النفسية، إلا أنه لا يمكن الانعزال عنها ماديا، لضرورة متابعة ومعرفة ما يردده معسكر الأعداء والمنافقين.
ويبقى جدار العزلة فى الحالين (المحورين) قائما على الاحتماء بالله سبحانه وتعالى: (كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 17-18).
فهذه العبادة والتسبيح والاستغفار تظل تذكر المؤمن بالسبب الأصلى للموضوع, حتى لا ينجرف إلى حالة من الحزن الشخصى, أو الوقوع فى ردود أفعال شخصية، فالموضوع هو الصراع الأكبر حول منهج الحياة، ولمن تكون السيادة فى الأرض, لمنهج الله، أم منهج المتكالبين على الحياة الدنيا. وفى القرآن حوار طويل مع رسول الله حول هذا الموضوع نقتطع منه هذه الآية: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) (الأنعام: 33), أى لا تحزن يا محمد, فالخلاف ليس معك، والتكذيب ليس لك، بل لله سبحانه وتعالى.
ونحن فى العصر الحديث لن نستطيع أن نواجه شياطين الإنس والجن، بدون هذا الكهف المعنوى (الملاذ), وهو قيام الليل ومواصلة التسبيح والاستغفار آناء الليل وأطراف النهار. حتى يتحقق فينا الحديث القدسى الذى أشرت إليه من قبل: (من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب…).
المجاهدون هم فرسان النهار رهبان الليل, هم معزولون عن المجرى السيئ للدنيا، ولكنهم فى قلب معارك إصلاح الدنيا، هم فى الدنيا وليسوا فيها, وكأن هناك حاجز زجاجى يفصلهم عن ملذاتها وشهواتها، هم الغرباء عابروا السبيل، المسافرون، ليست الدنيا بالنسبة لهم إلا شجرة فى طريق السفر يستظلون بفيئها، مجرد محطة على الطريق الأساسى, وهذه هى المعادلة الصعبة, أن تكون فى الدنيا ولا تكون فيها، أما العزلة عن الدنيا فهى أسهل الحلول وأبعدها عن الإسلام.
سجن المرج – 2009