الدكتورة شكرية المراكشى تكتب : أين مدرسة مستجير ولماذا لم يستكمل تلاميذه ما بدأه؟
أحمد مستجير.. مزارع الفقراء.. هذا العالم الجليل الذي تخصص في الهندسة الوراثية، وحقق العديد من الإنجازات والاكتشافات التي خدمت بلاده وأمته، آمن بدور العلم في إسعاد الفقراء، والذي عرف نفسه قائلاً: «أنا في الحق موزع بين شاطئين كلاهما خصب وثري، أجلس علي شاطئ واستعذب التأمل في الآخر.. وأعرف أن الفن أنا، والعلم نحن، ذبت في ال نحن وأحن إلي الأنا، وأعرف أن الفن هو القلق وأن العلم هو الطمأنينة، فأنا مطمئن أرنو إلي القلق».
ظل طوال حياته ينادي ويحاول إقناع الجميع برسالته، فكان دائمًا ما يردد ويقول «إن البيوتكنولوجي أهم لبلدنا من الكمبيوتر «وتحقيقًا لذلك عكف د.أحمد مستجير علي مطالعة كل ما هو جديد في علم الهندسة الوراثية من بحوث ودراسات علمية، فأصبح بذلك المبشر الأول بالتكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية في مصر، وظل يشرح دورهما البالغ الأهمية في التنمية بمفاهيمها الواسعة والشاملة، وظل كذلك حتي سمي ب «أبوالهندسة الوراثية».
رؤية واضحة
هو العالم والمفكر والأديب أحمد مستجير، والذي كانت له إسهامات كبيرة في مجال الهندسة الوراثية فكانت له رؤية واضحة إزاء كل جديد يصدر في هذا الشأن، فعندما انتشرت نتائج أبحاث الاستنساخ البشري كان الدكتور مستجير واضحًا كل الوضوح في رفضه الأخلاقي لهذه الفكرة، ويري البعض أن ذلك يعد السبب الرئيسي في تباطؤه في العمل علي إنشاء مركز للاستنساخ الحيواني في كلية الزراعة، وهي الكلية التي تخرج منها ومن بعدها عمل مهندسًا زراعيًا في عزبة الفؤادية وهي قرية قريبة من محافظة الدقهلية التي ولد بها في ديسمبر عام 1934، ولكنه لم يستمر في هذه المهنة، إذ سرعان ما تركها حيث عمل باحثًا بالمركز القومي للبحوث، ومن خلال عمله في المركز واصل دراسته العليا حتي حصل علي درجة الماجستير في علوم تربية الدواجن في عام 1958، وبعد ذلك سافر إلي بريطانيا لاستكمال الدراسة فحصل علي دبلوم علوم وراثة الحيوان بدرجة امتياز ويذكر أنها المرة الأولي في تاريخ المعهد أن يحصل طالب علي هذا التقدير من معهد الوراثة في جامعة أدنبرة في عام 1961، ثم بعد ذلك نال درجة الدكتوراه في علم وراثة العشائر عام 1963.
وبعد عودته من بريطانيا عمل د.مستجير بهيئة التدريس في كلية الزراعة بجامعة القاهرة وتدرج في وظائفها حتي درجة الأستاذية في عام 1974، بعدها انتخب عميدًا للكلية لثلاث مرات علي التوالي بدءًا من عام 1986 حتي عام 1995 بعد ذلك وصل إلي سن التقاعد ولكن حياته العلمية والبحثية لم تنته حتي آخر لحظة من عمره. وظل يساهم بخبراته العلمية والمهنية في مجالات الزراعة والهندسة الوراثية، فكانت دائمًا ما تستعين بأفكاره وزارة الزراعة المصرية وكل الهيئات والمراكز التابعة لها.
يذكر أنه من أهم إسهامات الدكتور أحمد مستجير أنه أول من قام بعمل تهجين بين الأبقار البلدية ومثيلاتها الأجنبية، مستعينًا بتكنولوجيا التلقيح الصناعي، وهو ما أدي إلي تحسن السلالة البلدية ورفع مستوي إنتاجها من الألبان.
أيضًا هو أول من نبه إلي ضرورة استخدام التكنولوجيا الحديثة في مجال الوراثة لتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني والنباتي في مصر، وأول من أنشأ مركزًا للهندسة الوراثية ومركزًا آخر للبيوتكنولوجي في جامعة القاهرة. وكان يري أنه من الممكن استخدام هذه التكنولوجيا لإسعاد الفقراء، وحل مشكلاتهم الاقتصادية فهي تتضمن زراعة الأنسجة ودمج الخلايا والهندسة الوراثية، وبتوظيفها يمكن إنتاج نبات مقاوم للأمراض أو مقاوم للملوحة أو متميز بمحصول وفير. ويعتقد الدكتور أحمد مستجير أنه بما أن الإنسان يعتمد بشكل أساسي علي الأرز والقمح في غذائه واستنادًا إلي هذه الحقيقة بدأ مستجير في محاولة تهجين وإنتاج سلالات جديدة من القمح والأرز تتحمل الملوحة والجفاف وذلك عن طريق تهجينهم مع نباتات الغاب والبوص التي تنمو في الملاحات وتعيش علي المياه ذات الملوحة العالية. وبذلك يمكن تحقيق إنتاجية عالية من القمح مع عدم استخدام المياه العذبة وتوفيرها لاستخدامات أخري.
قيم وراثية
ليس هذا فحسب، فقد قام الدكتور مستجير بابتكار طريقة إحصائية جديدة تمكن الباحث من تقديم القيم التربوية الوراثية للحيوانات باستخدام سجلات أسلافها، وهي السجلات التي تم تبنيها في مصر وشاع استخدامها في مجالات الهندسة الوراثية للحيوانات، وفي الفترة الأخيرة تركزت معظم أبحاثه الأخيرة علي محاولة إثراء الفول البلدي بحامض الميثونين الأميني لتقترب قيمته الغذائية من قيمة اللحم، وكذلك إدخال جين مقاومة فيروس الالتهاب الكبدي وهو المرض المنتشر في مصر إلي الموز، وغيرها الكثير من الأفكار التي يرتكز محورها الرئيسي علي الفقراء. لذا يطلق معظم الباحثين علي المشروع العلمي لأحمد مستجير بمشروع «زراعة الفقراء».
ومع إيمان مستجير بأن العلم لابد وأن يوجه دائمًا إلي مصلحة المجتمع فقد كان يقول «العلم ليس سوي نشاط اجتماعي يجب أن يلتزم بتقاليد المجتمع وحاجاته، ولا يجب أن ننظر إليه علي أنه مجرد نشاط يحركه حب الاستطلاع، وبهجة الاكتشاف، فلا يصح أن يكون العلماء وحدهم هم الذين يوجهونه حيث يحلو لهم، فهناك حدود يجب أن يرسمها المجتمع» فلم يكن من العلماء الذين يغفلون ويتجاهلون أهمية أن يوظف العلم لخدمة الجماهير كلها وتحديدًا الفقراء منهم.
لم يكن الدكتور أحمد مستجير مهتمًا فقط بمجالات علوم الهندسة الوراثية فقط بل كانت له مواهب في مجالات أخري كالأدب والشعر، وظهر اهتمامه بعروض الشعر العربي من خلال كتابه الأول في هذا المجال الذي صدر تحت عنوان «في بحور الشعر.. الأدلة الرقمية لبحور الشعر العربي» الذي صدر عن مكتبة غريب بالقاهرة في عام 1980.
ويتضح من اسم الكتاب أن مستجير استغل موهبته الرياضية بتطبيقها علي عروض الشعر العربي، واستحدث نظرية جديدة في هذا المجال وهي مليئة بالتعقيدات وتحتاج إلي الكثير من الشرح والتبسيط. وبعد صدور الكتاب كتب مستجير عدة مقالات لشرح فكرته، قام بعدها بتجميعهم وتقديمهم في كتاب ثان تحت عنوان «مدخل رياضي إلي عروض الشعر العربي» الذي نشر في عام 1987.
مع الشعر والشعراء
بدايات الدكتور أحمد مستجير مع الشعر بدأت مع قراءته ديوانًا شعريًا للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور بعنوان «الملك لك» حينها كتب مستجير قصيدة شعرية بعنوان «غدًا نلتقي» وطلب من صديقه أحمد محمود الذي كان يشجعه علي كتابة الشعر مساعدته في مقابلة صلاح عبدالصبور باعتبار أن أحمد محمود صديق لعبد الصبور، وعندما قرأ مستجير الشعر أمام الشاعر عبدالصبور أثني الأخير علي هذه القصيدة مما شجعه علي الاستمرار في الكتابة فأصدر ديوانين هما «عزف ناي قديم» عام 1980، و«هل ترجع أسراب البط؟ والذي صدر في عام 1989.
وظل أحمد مستجير عالمًا مشاركًا في أي محاولة جادة تصبو إلي خدمة الوطن والمواطنين والارتقاء بمستوي معيشتهم، فلم يدخر علمًا أو جهدًا في ذلك، حيث عمل مقررًا للجنة قطاع الهندسة الوراثية والكنولوجيا الحيوية في المجلس الأعلي للجامعات، وعضوًا في اللجان العلمية الدائمة لترقية أساتذة الإنتاج الحيواني بالجامعات المصرية، وعضوًا في الجمعية المصرية لعلوم الإنتاج الحيواني، وعضوًا في الجمعية المصرية للعلوم والوراثة، إضافة إلي عضويته في المجلس القومي للإنتاج، واتحاد الكتاب، وكذلك عضوًا في الجمعية المصرية للنقد الأدبي، وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، كما تم اختياره زميلاً للأكاديمية العالمية للفنون والعلوم بسان فرانسيسكو في 2003. ومن ناحية أخري رشح الدكتور أحمد مستجير لعضوية مجمع اللغة العربية.
كما حصل الدكتور مستجير علي العديد من جوائز التقدير منها جائزة الدولة التشجيعية للعلوم والزراعة عام 1974، ووسام في العلوم والفنون التطبيقية الأولي عام 1974، كما حصل علي جائزة أفضل كتاب علمي مترجم عام 1993، وجائزة الإبداع العلمي عام 1995، وجائزة أفضل كتاب علمي عام 1996، وجائزة الدولة التقديرية لعلوم الزراعة عام 1996، وجائزة أفضل كتاب علمي لعام 1999، وجائزة أفضل عمل ثقافي عام 2000، وجائزة مبارك في العلوم والتكنولوجيا المتقدمة لعام 2001.
صعاب ومتاعب
مع هذا كله لم تخل حياة العالم الكبير أحمد مستجير من الكثير من الصعاب والمتاعب، فعلي الرغم من أنه كان صاحب رؤية واضحة في مجال الاستنساخ الحيواني ومعارضته الشديدة للاستنساخ البشري، إلا أن الكثير من الأصوات غير الموضوعية ذاعت وانتشرت وكتبت ما كتبت من الانتقادات ضده، ظهر ذلك بشكل متزايد بعد ترجمته كتاب «من يخاف استنساخ الإنسان؟».
ومع كل هذه الانتقادات ظل أحمد مستجير مصرًا علي الكتابة لتوضيح أفكاره، وظل يقدم كل ما يستطيع تقديمه للإنسانية، حتي سافر إلي النمسا في 2006 لقضاء بعض إجازة الصيف مع زوجته النمساوية التي تعرف عليها خلال دراسته في إدنبرة، وأنجب منها ثلاثة من الأبناء هم المهندس طارق الذي تخصص في هندسة الحاسب، وسلمي التي تخصصت في اللغة الألمانية، والدكتورة مروة التي تعمل في الجامعة الألمانية وتخصصت في دراستها في الهندسة الوراثية ويذكر أنها توصلت إلي اكتشاف الجين المسبب لمرض القولون.
وأثناء قضائه أجازته وقعت أحداث الحرب الإسرائيلية اللبنانية وأخذ يتابعها وخلال متابعته وهو متأثر وحزين بشكل لا يمكن وصفه، أصيب بنزيف في المخ ونقل علي إثره إلي المستشفي حيث وافته المنية في أغسطس 2006 عن عمر يناهز 72، بعد حياة مليئة بالكفاح المتواصل ضد الجهالة وضد ثقافة الماضي العاجزة عن تحقيق أي تقدم في حياة وكرامة الإنسان، وكما عاش مهمومًا بمشكلات الناس والوطن مات أيضًا مهمومًا بمشكلاته وقضاياه
وما اكثر من يعيش مؤمنا بعلمه وانجازاته البحثية ويترك علما
زاخرا وتنتهي ايامه. وتندثر ابحاثه في طيات الملفات في ادراج مقفلة ..