لم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى يوم من الأيام ذا وجه واحد، فقد عرفته الأوساط السياسية والشعبية داخل إسرائيل وخارجها بوجوه متعددة متلونة، منذ أن برز اسمه فى حزب الليكود مع بداية تسعينيات القرن الماضى، هو دائما مع الموجة الرائجة، وكلما زادت سنواته فى الحكم والعمل السياسى زادت الوجوه المتلونة التى يتدثر بها، حتى ليبدو بعدة أشخاص فى جسد واحد، وعدة ألسنة فى لسان واحد، يعرف جيدا كيف يتلاعب بالمواقف والشعارات ليجنى مكسبا، أو ليهرب من مطبات صنعها بنفسه لنفسه.
لذلك، فهو فى علاقاته السياسية شخص غير مريح، متقلب غير مضمون، لايصون وعدا ولا يصدق فى حديث، حتى مع أصدقاء إسرائيل، وكثيرا ما تسبب فى إحراج هؤلاء الأصدقاء حين لم يلتزم بعهد تعهد به، يدعى أنه رجل سلام، ويدعو إلى إقامة علاقات طبيعية مع الدول العربية، لكنه فى الوقت ذاته لا يترك فرصة تمر دون أن يشعل أوار الحرب والصراع المسلح، ويحرض على الكراهية والعنف، ويتخذ من المواقف أشدها تطرفا، بحيث لايبقى مجالا لحديث عن السلام.
وفى آخر تصريحات له قال بتبجح شديد إنه رئيس الحكومة الوحيد الذى نجح فى إقامة علاقات طبيعية مع دول عربية دون أن يضطر إلى تقديم تنازلات، وأنه الوحيد الذى استطاع أن ينفذ إلى دول إفريقية عديدة، وأن يفك الارتباط بين علاقاته مع العرب وصراعه مع الفلسطينيين، وأنه يجرى اتصالات لتطبيع العلاقات مع دول عربية أخرى على الطريق، لكنه فى الوقت ذاته يحرض المتطرفين الصهاينة والمستوطنين على اقتحام المسجد الأقصى، والعمل بكل السبل على تغيير هوية القدس الشرقية، التى هى جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة بمقتضى قرارات الأمم المتحدة.
وقد بلغ من فجر هذا الوجه الكذوب المتناقض أن عرض الوساطة بين الطرفين المتصارعين فى السودان، كما عرض الوساطة من قبل بين روسيا وأوكرانيا، للإيحاء بأنه صانع سلام، وبالطبع لم يأخذ أحد فى العالم عرضه هذا أو ذاك على محمل الجد، فهو نفسه يرفض السلام مع الشعب الفلسطينى، ويصر على فرض سياسة الأمر الواقع بقوة السلاح، ويقتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين، ويدمر منازل الفلسطينيين لإجلائهم عن مدنهم وقراهم، حتى يقيم على أنقاضها مستوطنات للمهاجرين اليهود القادمين من الشرق والغرب.
ولا ينسى نتنياهو فى تصريحاته أن يشيد بالديمقراطية الإسرائيلية، وتفانيه فى خدمة المواطن الإسرائيلى، بينما هو فى الواقع أخطر معول هدم للقوانين والقواعد التى تحكم دولة إسرائيل، وقد نجح خلال الشهور القليلة الماضية فى إحداث شرخ كبير فى نظام الدولة، حينما تقدمت حكومته بتعديلات على قانون المحكمة العليا تتيح لها التدخل فى عملها، وكانت هذه محاولة لإنقاذ نتنياهو وزوجته من المحاكمات التى تلاحقهما بتهمة الفساد وتلقى رشاوى خلال فترة حكمه السابقة، وقد دفع ذلك الإسرائيليين إلى النزول للشوارع فى مظاهرات عارمة لإسقاطه، وحينها لم يجد وسيلة للهروب من المأزق إلا بإعلان تأجيل النظر فى التعديلات وشن حرب سريعة على غزة، كى يلفت أنظار الإسرائيليين بعيدا عن فضيحته.
وحتى فيما يتعلق بمفاوضات أمريكا وأوروبا مع إيران بشأن برنامجها النووى، التى يراقبها العالم على أمل أن تساعد فى دعم السلم والأمن فى الشرق الأوسط، يتخذ نتنياهو موقفا معاكسا للجميع، فيعلن أنه يرفض هذه المفاوضات من حيث المبدأ، ولن يلتزم بأى اتفاق ينتج عنها، وأن إسرائيل لن تسمح بامتلاك إيران سلاحا نوويا، وسوف تتصرف بمفردها لتحمى نفسها من الخطر الإيرانى المحتمل، ومن الأعداء الذين يحيطون بها.
وبالطبع لا يتطرق نتنياهو إلا حق الآخرين، المحيطين بإسرائيل، فى حماية أنفسهم من خطرها، وهى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تمتلك ترسانة نووية بلا رقابة، وهى الدولة الوحيدة التى تحارب فى كل الجبهات المحيطة بها، وقد فشلت خطة نتنياهو من قبل فى إقامة ما أسماه بـ ” التحالف الإسرائيلى / السنى ” ضد إيران والتنظيمات الشيعية الموالية لها، والسبب واضح بلا شك، فلا أحد يثق فى نتنياهو، ولا هو قدم سلوكا سياسيا يشجع الآخرين على أن يضعوا أياديهم فى يده.
ومعروف أن علاقة نتنياهو مع إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن فى أسوأ حالاتها، للتناقض الواضح بين استراتيجيتي الطرفين، فإدارة بايدن تسعى لتهدئة الجبهات المشتعلة، توطئة لتمرير حل الدولتين، الفلسطينية والإسرائيلية، كما تسعى إلى تهدئة منطقة الخليج لتأمين إمدادات البترول، واحتواء القدرات النووية الإيرانية، حتى تتفرغ لمواجهة أكبر عدوين منافسين لها، روسيا والصين، بينما يعمل نتنياهو على إشعال الجبهة الفلسطينية، والتذكير الدائم بالصراع مع إيران، لضمان توحد الإسرائيليين خلفه، ولفتهم عن فساده ومحاكماته.
لم تعد ألاعيب نتنياهو تنطلى على أحد، ولم تعد أقنعته قادرة على أن تخفى وجوهه المتعددة المتناقضة، خاصة أنه فى هذه الأيام يركب أعلى موجات التشدد، ويرأس أكثر حكومات إسرائيل تطرفا.