الدكتور إسماعيل مقلد يكتب : بوتين.. سياسي براجماتي انتهازي من طراز فريد ( أزمة سد النهضة نموذجا)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي جاء سفيره في مجلس الامن ليحذر من مغبة التهديدات التي تطلقها بعض الاطراف الضالعة في ازمة السد الاثيوبي ويقصد بها مصر والسودان اساسا ، ومناشدته لهذه الاطراف بالتخلي عن اسلوبها التهديدي كما اسماه، والتحول بدلا منه الي استخدام لغة الحوار والتفاوض الودي من اجل التوصل الي حل توافقي مقبول لهذه الازمة الخ… هو نفسه بوتين الذي وجه انذارا بالغ الحدة والخشونة في لهجته الي دول الناتو بانه لن يتردد في استخدام قوته العسكرية ، بما فيها الاسلحة النووية، للرد بها علي اي تهديد لامن روسيا القومي..
وجاء تهديده العنيف لتحالف الناتو ردا منه علي دخول قطعة بحرية بريطانية يتيمة الي البحر الاسود ربما بطريق الخطأ غير المقصود ، وليس كعمل استفرازي مدبر كما تركزت اتهاماته ومزاعمه التي اقام بها العالم ولم يقعده وقتها وكاننا نوشك علي الدخول في حرب عالمية ثالثة
كل ذلك بسبب حادث فردي عابر لا اهمية ولا تاثير له مطلقا علي امن روسيا القومي كهذا الذي حدث من سفينة بريطانية متواضعة القدرات التسليحية خلافا لما جري به تصويرها للعالم ..وهو الحادث الذي فشل بوتين في تقديم دليل واحد موثوق فيه يدعم به صحة مزاعمه التي بالغ في تضخيمها بصورة اثارت استغراب العالم ودهشته وتساؤله حول اهداف بوتين الحقيقية من هذه الضجة الاعلامية المفتعلة ..
وايا ما كانت دوافعه من افتعاله لهذ الازمة مع دول الناتو ، فانه برهن باسلوبه في التعامل مع هذا الحادث العارض والمحدود في اهميته علي غياب لغة الدبلوماسية من قاموس سياسته الخارجية لتحل مكانها لغة الانذارات الحادة والتهديدات الفجة والمستفزة…
ومن ذلك ايضا ما فعله بجراة يحسد عليها عندما اقدم علي اقتطاع شبه جزيرةالقرم من اوكرانيا وهي دولة مستقلة ذات سيادة واستيلائه عليها وضمها الي روسيا الاتحادية بزعم انها تاريخيا جزء منها وما الي غير ذلك من ذرائع وادعاءات ، وفرض الامر الواقع بالقوة في تحد سافر لدول الناتو والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة…فاين كانت الدبلوماسية في هذا كله ؟
وهو بوتين نفسه الذي كان المبادر الي تفجير سباق تسلح استراتيجي لم يشهد العالم مثيلا له منذ انتهاء الحرب الباردة، وهو ما دفعه مرارا الي التفاخر مزهوا بقوته العسكرية العملاقة َومتباهيا بحيازته لاجيال جديدة وغير مسبوقة من الاسلحة الاستراتيجية والفضائية المتطورة بقدراتها التدميرية الخيالية والتي لا مثيل لها في اي ترسانات عسكرية اخري في العالم كما قال بوتين نفسه في اكثر من مناسبة وهو ينذر ويحذر ويقارن ، ولم يسال الرئيس بوتين نفسه لماذا يتحدث الي العالم طول الوقت بلغة القوة ، وبما يمكن ان تفعله هذه القوة في الآخرين ، بدلا من التحدث الي العالم الغارق في ازماته ومشكلاته باسلوب دبلوماسي هادئ ؟ ولماذا لا تتطابق افعاله مع اقواله حتي يتوفر لسياساته اساس كاف من المصداقية علي المستوي الدولي العام ؟
وهنا نقول ايضا وقياسا علي ما سبقت الاشارة اليه خاصا باستعداد الدولة الروسية لاستخدام الاسلحة النووية للدفاع بها عن امنها القومي في. مواقف التهديد والخطر ، انه لو كانت شرايين حياة الشعب الروسي المائية تواجه تهديدا ساحقا ومدمرا كهذا الذي تواجهه كل من مصر والسودان بسبب سد الخراب الاثيوبي ، فماذا كان بوتين سيفعل وقتها كرئيس يتحمل مسئولية الدفاع عن حق شعبه في الحياة الطبيعية الآمنة ؟ وهل كان سيسكت علي هذا التهديد ، ويستسلم للامر الواقع، ويقبل بالخسارة او بالهزيمة في مواجهة هذا التحدي الوجودي الرهيب ، ام انه كان سيهاجم هذا السد ويضربه بكل قوته ليدمره ويزيله من الوجود مرة واحدة والي الابد ؟ هذا ما لا يخالجني ادني شك فيه….
وحتي نحسم الجدل الدائر حول موقف روسيا الاخير في مجلس الامن الدولي والذي جاء صادما لتوقعات كثيرين منا هنا في مصر وربما في السودان ايضا ، اقول ان الرئيس بوتين سياسي براجماتي انتهازي من طراز فريد ، طراز لا يمت الي السياسيين السوفيت القدامي بصلة حتي لا ندخل انفسنا في متاهة مقارنات تاريخية لا اساس لها من الواقع الحالي بعد ان تغير هذا الواقع مائة وثمانين درجة عما كان عليه في الماضي حيث كانت الاعتبارات الايديولوجية هي العامل الحاكم في تحديد المواقف ورسم السياسات ، اما الآن ، فان اساس العلاقات مع الآخرين مرهون عند بوتين برؤيته وحساباته لمصالح بلاده ولمدي ما يمكن ان تنعكس به هذه العلاقات عليها ان سلبا او ايجابا ، ومن اجل ذلك ، فانه يناور ويداور ويتلون تبعا لما تتطلبه مصالح بلاده من مواقف وسياسات وقرارات داعمة لها ، وهو بارع في اللعب بكل الاوراق وفي قدرته علي استمالة كافة الاطراف بالرغم مما قد يكون بينهم من خلافات او حساسيات ، وقد استطاع بدهائه الشديد وبقدرته الفذة علي المناورة ان يحقق انجازات سياسية واستراتيجية كبيرة في جبهات كثيرة حتي اصبح حاضرا ومؤثرا في كل الساحات الاقليمية والدولية بالدور والقوة والنفوذ….
وعلينا ان نفهمه علي حقيقته اذا كان لنا ان نعرف طريقنا الي التعامل معه.. وبدون ذلك سوف نبقي بعيدين عن الواقع ونبالغ في ما نتوقعه منه كرئيس لدولة كبري تزاحم الولايات المتحدة علي زعامة العالم.. ….وما فعله مندوبه في مجلس الامن لم يكن بعيدا عما توقعناه وذلك من منطلق معرفتنا به لسنوات طويلة من خلال رصدنا لسياساته وفهمنا لاسلوبه الانتهازي في ادارة علاقاته الدولية وبخاصة في مناطق الصراع والازمات الرئيسية في العالم. . فمصالحه قبل مبادئه وحرصه علي الانتشار والتمدد والتاثير بقوته هي بوصلته التي يتحرك بها ولا شيئ آخر غيرها….وهذا هو المفتاح الي تفسير كل ما جري في مجلس الامن ولكل ما سوف يجري مستقبلا سواء داخل هذا المجلس او خارجه……