الأمن الغذائى يعنى استقرار الإمدادات، وهنا أيضا يكون للتجارة دور مهم. فالتجارة تسمح بالحد من التقلبات فى الاستهلاك وتخفف على البلدان جانبا من الأعباء المالية المترتبة على الاحتفاظ بمخزونات غذائية كبيرة. بيد أن الاعتماد الكامل على التجارة لا يسفر، بالضرورة، عن استقرار الأسعار المحلية. وفى الحقيقة، تخشى بعض البلدان من أن تكون النتيجة عكسية، لأن وجود نظام تجارى أكثر انفتاحا سوف يعرض الأسواق المحلية لتقلبات السوق العالمية. ولذلك، يتمثل الاعتبار الرئيسى هنا فيما إذا كان تقلب الأسعار فى السوق العالمية سوف يقل أو يزيد نتيجة لتحرير التجارة، وما إذا كان التقلب الحالى فى الأسعار المحلية سيكون أعلى أو أدنى من تقلبها فى المستقبل.
ويعنى إلغاء القيود الكمية وخفض التعريفة الجمركية اتساع نطاق المشاركة فى استيعاب صدمات الإنتاج، مما سيكون له تأثير على استقرار السوق. وفى نفس الوقت، فإن مكان الإنتاج قد يتنقل إلى حد ما من البلدان التى تكون مستويات الحماية فيها مرتفعة نسبيا إلى البلدان التى تكون الحماية فيها منخفضة نسبيا. وإذا كان الإنتاج يعانى مزيدا من عدم الاستقرار فى المجموعة الثانية من البلدان، عندئذ يمكن أن تزداد حالة التباين العام فى الإنتاج.
وربما كان هناك تأثير آخر أكثر أهمية يتأتى من مستوى المخزونات وملكيتها. فتقليل التدخل من جانب الحكومات يعنى أن مستوى المخزونات العامة سوف ينخفض وأن المخزونات التى يحتفظ بها القطاع الخاص قد لا ترتفع بالدرجة التى تكفى لسد الثغرة. وتشير الدراسات التى أجريت فى منظمة الأغذية والزراعة إلى أن درجة حلول المخزونات الخاصة محل المخزونات العامة قد تكون فى حدود 40 فى المائة. ونتيجة لذلك، فمن المرجح أن يكون إجمالى المخزونات العالمية فى المستقبل أدنى مما كان عليه فى الماضى. ومع ذلك، فمن المتوقع أن تصبح المخزونات أكثر استجابة للتغير فى الأسعار مما كانت علية المخزونات الحكومية فى الماضى، لأن القطاع الخاص سوف يتحكم فى جانب أكبر من المخزونات.
وهكذا، ففيما يتعلق بقضية استقرار الأسعار، توجد أربعة مؤثرات ينبغى أن تؤخذ فى الاعتبار، وهى: تأثير إيجابى مترتب على عملية التَعْرَفَة؛ وتأثير غير مؤكد نتيجة لتغير مكان الإنتاج؛ وتأثير سلبى نتيجة لخفض مستويات المخزونات الكلية؛ وتأثير إيجابى نتيجة لزيادة القدرة على الاستجابة من جانب المخزونات المتبقية. والتأثير الإجمالى لهذه العوامل الأربعة غير مؤكد رغم وجود توافق عام فى الرأى على أن الأسعار العالمية من المرجح أن تصبح أكثر استقرارا فى المدى البعيد مما كانت عليه قبل جولة أوروغواى، عندما توفق الأسواق أوضاعها تماما مع الظروف التجارية الجديدة. ومع ذلك، فقد تزداد حالة عدم الاستقرار إلى حد ما خلال الفترة الانتقالية.
وسواء تغيرت حالة عدم الاستقرار فى الأسعار العالمية أم لم تتغير، فإن التحول نحو نظام يقوم على التعريفة الجمركية فقط، وخفض التعريفة الجمركية فى بعض الحالات، يعنى أن القطاع المحلى يميل إلى أن يكون أكثر تأثرا بالتحركات السعرية الدولية. وهناك عاملان يحددان ما إذا كانت حالة عدم الاستقرار فى السوق المحلية ستكون أكثر أو أقل بعد هذا التغيير. أولهما هو ما إذا كان قد تم فى الماضى ابطال مفعول “الصدمات” المحلية التى يتعرض لها الإنتاج والإستهلاك بواسطة التغييرات الحادثة فى حجم التجارة أم لا. والثانى، مدى تأثير تدابير السياسات قبل عملية الإصلاح القائمة على تطبيق التعريفة الجمركية فقط من حيث عزل السوق المحلية أو عدم عزلها عن المؤثرات الخارجية. وفيما يتعلق بالنقطة الأولى فقد تحكمت العديد من البلدان فى احجام التجارة من خلال التراخيص أو تشغيل المؤسسات التسويقية شبه الحكومية. وبينما لا يوجد فى إتفاقيات منظمة التجارة العالمية ما يدعو البلدان إلى تفكيك انظمتها التسويقية، إلا أن عملية الموازنة الدولية الهادفة لمعادلة التذبذبات المحلية فى الأسعار قد تكون أكثر سهولة أو أكثر فعالية فى ظل نظام ما بعد جولة أوروغواى. ثانيا، يمكن الافتراض بأن التحول نحو نظام التعريفة الجمركية فقط سوف يؤدى إلى انتقال التغيرات السعرية الخارجية إلى السوق المحلية. لأن كثيرا من الحكومات كانت فى الماضى تعلق أهمية على استقرار الأسعار وتطبق مجموعة من السياسات غير التعريفية لتنفيذ هذه السياسة (الرسوم الجمركية المتغيرة، والحصص، وما إلى ذلك..). ومع ذلك، فمما يقال إن النظم الجديدة اللاحقة لجولة أوروغواى يمكن أن تستخدم أيضا فى تحقيق الاستقرار فى الأسعار. وهكذا يتبين أن العاملين الذين يؤثران على استقرار الأسعار نتيجة للتحول نحو نظام تجارى أكثر انفتاحا يقوم على التعريفة الجمركية فقط يُحدثان جذبا فى اتجاهين مختلفين. ولذلك، لا يمكن القول، كأمر مسلم به، إن حالة عدم استقرار الأسعار المحلية سوف تزداد أو العكس نتيجة لانفتاح الأسواق.
وإذا ثبت أن التعرض لعدم استقرار الأسعار فى الأسواق العالمية لن يكون مقبولا، فإن الاتفاق بشأن الزراعة يتضمن عددا من الأحكام التى يمكن أن يطبقها أى بلد لحماية نفسه من تحمل العبء الكامل لعدم استقرار السوق خارج حدوده. ومن بين هذه الأحكام: وجود أحكام للتدابير الوقائية الخاصة فى الاتفاق بشأن الزراعة، أى فرض تعريفات إضافية فى ظروف معينة؛ وتغيير مستوى التعريفات المطبقة (وهو ما يسمى اصطلاحيا “نظام التعريفة المتحركة” فى نطاق مستوى السقف المربوط الذى التزم به البلد)؛ وإلى حد ما من خلال الاحتفاظ بمخزونات للأمن الغذائى.
التجارة وسهولة الحصول على الغذاء:
والعنصر الثالث من عناصر الأمن الغذائى هو سهولة الحصول على الغذاء. وللتجارة الدولية تأثير كبير على سهولة الحصول على الغذاء نظرا لتأثيرها على النمو الاقتصادى، والدخل والعمالة. ورغم أنه من المفترض عموما أن السياسات التجارية الأكثر انفتاحا تسهم فى تحقيق النمو الاقتصادى بمرور الوقت، فإن القضية الرئيسية بالنسبة للأمن الغذائى هى ما إذا كان النمو الاقتصادى سيصل إلى الفقراء. فإذا كانت منافع النمو الذى تكون التجارة وراءه سوف تتركز إلى حد كبير على الموسرين، فإن حالة الأمن الغذائى على مستوى الأسرة قد تزداد سوءا بالنسبة للكثيرين، رغم حدوث ارتفاع عام فى مستوى النمو الاقتصادى. ومع ذلك، هناك من القرائن ما يشير إلى أن صناعات التصدير فى كثير من البلدان النامية تتطلب عمالة أكثر كثافة من الصناعات التى تقوم على إحلال الواردات، وهكذا تميل العمالة إلى الارتفاع فى البلدان التى يكون اقتصادها متجها نحو الخارج.
ومع ذلك، فمن الواضح أن الوضع يختلف من بلد لآخر بشكل لا يمكن معه إصدار أحكام عامة. وعموما فإن الارتباط بين التجارة، والنمو، والعمالة والفقر غير واضح تماما، لأن كل مُتغير من هذه المتغيرات يتأثر بعوامل أخرى. فتأثير التجارة على الأمن الغذائى على مستوى الأسرة هو جزء من قضية أوسع هى تحديث الزراعة وما تشهده من تحول، وتأثير ذلك على مستوى المعيشة والتوزيع. فرغم أن التجارة توفر فرصا جديدة للتخصص والتبادل، فإن مدى استفادة الأسر الفقيرة من هذه الفرص يعتمد على مدى قدرتها على الحصول على الموارد وعلى الدور المساند الذى تقوم به الدولة. وحينما توجد مشكلة تحد من مقدار استفادة الأسر الفقيرة من التجارة فكثيرا ما ترجع الأسباب إلى تحيز السياسات وضعف المؤسسات أكثر مما تكون نتيجة للتجارة فى حد ذاتها.
وقصارى القول فى هذه القضية، أنه إذا كانت هناك سياسات محلية تساعد على توسيع نطاق المنافع والتعويض عن الخسائر، فإن تحرير التجارة يمكن أن يلعب دورا مُهما فى تحسين القدرة على الحصول على الغذاء، حتى بالرغم من احتمال وجود مشكلات تتصل بالتكيف مع النظام التجارى الجديد. وقد اعترفت جولة أوروغواى بالصعوبات التى يمكن أن تواجهها البلدان أثناء عملية الإصلاح، وأُعطيت للبلدان النامية معاملة خاصة ومتميزة، معظمها على شكل منحها فترات أطول للتكيف، وتقليل التزاماتها الخاصة بخفض التعريفة الجمركية. كذلك تعترف الوثيقة النهائية بأن البلدان النامية فد تتعرض أثناء عملية الإصلاح لتأثيرات سلبية من حيث توافر إمدادات وافية من المواد الغذائية المستوردة بشروط معقولة. ويعد قرار التدابير المتعلقة بالتأثيرات السلبية المحتملة لبرنامج الإصلاح على البلدان الأقل نموا والبلدان النامية التى تعد مستوردة صافية للغذاء بمثابة التزام باتخاذ إجراءات من أجل التخفيف من حدة هذه التأثيرات.
أ.د/علي عبدالرحمن على – رئيس الاتحاد الدولي للاستثمار والتنمية والبيئة