الدكتور جمال صيام يكتب : الأمن الغذائي المصري بين اليوريا والدولار الأمريكي والاستحواذ والحرب الروسية الأوكرانية
أكتب هذا المقال (الدراسة) مدفوعا بدوافع ثلاثة ، الأول هو أهمية الموضوع بالنسبة للمزارعين ، وأنا مزارع أصلا فضلا عن كوني أستاذا جامعيا ، الثاني، تنبيه الزملاء الدارسين والمتخصصين إلي أهمية إجراء دراسات متعمقة علي الأسمدة للمساهمة فى حل مشكلتها المزمنة ، الثالث ، وهذا ربما يكون دافعا معنويا ، إذ أثناء انعقاد المؤتمر التاسع والعشرين للاقتصاديين الزراعيين ، تقابلت مع العديد من الزملاء الذين أبدوا اهتماما بالمقالات التي أكتبها وقد سعدت بذلك ولا شك ، إذ كنت أظن أن لا أحد يهتم.ولذلك أكتب هذا المقال فى ظل شعور جديد أن ما أكتب سوف يقرأ وقد يستفاد به سواء علي مسنوي التخصص أو علي مستوي اتخاذ القرار.
الدعم والتشوهات السعرية والطرف الأضعف فى معادلة الأسمدة الآزوتية
الأسمدة الآزوتية (النيتروجينية) هي أحد أهم عناصر الإنتاج الزراعي والغذائي، وبغيرها قد ينخفض الإنتاج بأكثر من الربع.ولذلك يحرص المزارعون ، حتي الفقراء منهم ، علي إضافتها حتي لو اضطروا إلي الاقتراض.وهى من ثم تعتبر بصورة أو بأخري أحد مقومات الأمن الغذائي فى مصر.وفى هذا الإطار تحرص الدولة علي استمرار سياسة دعم الأسمدة الأزوتية (اليوريا (46.5%) ونترات النشادر (33.5%) وسلفات الأمونيوم (15.5%)).
وقد دأبت طوال العقود الماضية على تبني سياسة الدعم العيني للأسمدة النيتروجينية، ومع ذلك نشأ عنها مشكلات كبيرة لمنتجيها (الشركات) ومستهلكيها (المزارعين)على حد سواء وكذا بالنسبة للدولة أيضا. إلا أن معظم الأضرار كانت تقع في الأغلب على المزارعين.
فطالما أن هناك سعرين للسلعة أحدهما مدعوم والآخر حر، كانت هناك مشكلة عدم وصول الدعم إلى مستحقيه، متسربا بصورة أو بأخرى (مصحوبا بالفساد) إما إلى الشركات المنتجة نفسها او إلي الموزعين سواء تجار الأسمدة أو البنك الزراعي المصري أو التعاونيات (الجمعية التعاونية العامة للائتمان والجمعية التعاونية العامة للإصلاح الزراعي).
لاشك أن الطرف الأضعف في معادلة الأسمدة الأزوتية هم المزارعون.
فهم لا يحصلون في الأغلب علي مخصصاتهم السمادية المدعومة ويضطرون إلي استكمال احتياجاتهم من السوق الحر (السوق السوداء) بأسعار مرتفعة، والشركات المنتجة تدعي أن بيعها لإنتاجها بالسعر المدعوم يجعلها تتحمل أعباء (خسائر) رغم أنها تحصل علي الغاز الطبيعي (المكون الأكبر في تكلفة الإنتاج) بسعر مدعوم، ومن ثم يحاولون بكل الطرق تصدير ما يمكنهم تصديره إلي السوق العالمي بسعر أعلي، ولو علي حساب الكميات المقرر تسليمها إلي المزارعين (وزارة الزراعة والتعاونيات)، والتعاونيات من جانبها تفرض علي المزارعين عمولات مبالغ فيها أو تحاول تسريب بعض الكميات إلي السوق الحر (السوداء) اقتطاعا من مخصصات المزارعين.
بداية تصاعد الأزمة السمادية فى أبريل 2021
منذ أبريل 2021 (أي قبل الحرب الروسية الأوكرانية بنحو تسعة شهور) وبفعل الزيادات الكبيرة فى أسعار البترول وانعكاسات وباء كوفيد 19 ، تغيرت معالم مشكلة الأسمدة الآزوتية وأصبحت أكثر تعقيدا بشكل كبير بعد التصاعد الحاد في أسعارها العالمية. مما كان له انعكاسات كبيرة علي أطراف المشكلة الأساسيين وهم الحكومة والشركات المنتجة والمزارعين.وتتأثر الحكومة من خلال الميزانية العامة للدولة (قيمة الدعم الضمني) وصادرات الأسمدة والدولة معنية أيضا بإنتاج الغذاء ، أما الشركات فيتأثر إنتاجها وأربحياتها ، أما المزارعين فيتأثرون من خلال الإنتاج المزرعي ومن ثم دخولهم.وفى الواقع ينبثق تعقيد المشكلة من تصادم (تعارض) هدفي زيادة صادرات الأسمدة وهو ما يهم الشركات المنتجة ، وزيادة الإنتاج الزراعي والغذائي وهو ما يهم المزارعين.أما الدولة فهي معنية بالهدفين معا ولكن عليها أن تقيم التوازن بينهما بحساب دقيق.
وكمثال للتوضيح ، فإذا كان طن اليوريا يستخدم فى تسميد نحو 7 أفدنة قمح (بمعدل 3 شكائر للفدان) تنتج نحو 43 طنا ، فإن عدم استخدام هذا الطن وتصديره بقيمة نحو 650 دولار (السعر العالمى حاليا) قد يؤدى إلي نقص الإنتاج بنحو 4.7 طنا قيمتها حاليا أكثر من 1400 دولار ناهيك عن قضية الأمن الغذائي. إذن إدراكا من الدولة لهذه الحقيقة ، تقوم بتقديم الأسمدة الأزوتية للمزارعين بمقررات محددة للمحاصيل بسعر مدعوم ولكن بصورة غير مباشرة ، فهى ، حتى 20 سبتمبر الحالي، تمد الشركات المنتجة بالغاز الطبيعي (الذي يشكل 65% من تكلفة إنتاج السماد) بسعر مدعوم قدره 4.5 دولار للمليون وحدة حرارية (مقارنا بالسعر العالمي وهو 7 دولار)، وفى مقابل ذلك ، علي الشركات أن تقدم 55% من إنتاجها للسوق المحلي (للمزارعين) بسعر مدعوم قدره 4500 جنيه للطن اليوريا (225 جنيه للشيكارة) بزيادة 30% عن السعر المدعوم فيما قبل أبريل 2021، فضلا عن ضخ 10% لتغطية احتياجات المزارعين ذوي المساحات من 25 فدان فأكثر، بسعر السوق الحر والذي يصل إلي نحو 9000 جنيه للطن.
الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها علي السوقين العالمي والمحلي للأسمدة الآزوتية
مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية فى 24 فبراير 2022 ولم تنته بعد آثار جائحة كوفيد-19 وانعكاساتها الخطيرة علي اقتصاديات العالم بما فى ذلك تراجع معدلات النمو وارتباك سلاسل الإمداد العالمية بما فى ذلك سلاسل إمداد الغذاء،برزت متغيرات جديدة سواء علي صعيد أزمة الغذاء العالمية أو علي صعيد السوق العالمي للأسمدة الآزوتية أدت إلي تصاعد أسعارها بمعدلات غير مسبوقة.
تعرض السوق لصدمة عرض Supply shock نتيجة لتوقف صادرات روسيا من الأسمدة فى ظل العقوبات الغربية ، وتعرض لصدمة أخري ولكن من خلال ارتفاع سعر الغاز الطبيعي (المكون الرئيسي فى تكلفة إنتاج السماد) من 7 إلي 9 دولارات للمليون وحدة حرارية ، يضاف إلي ذلك اشتداد حدة أزمة الغذاء العالمية نتيجة لتوقف صادرات الحبوب من روسيا وأوكرانيا ، مما قد يعني زيادة الطلب علي الأسمدة الأزوتية.أدت هذه المتغيرات إلي زيادة سعر اليوريا كما ذكرنا ، إلي نحو 650 دولار للطن.
أما علي الصعيد المحلي ،فقد حدثت تخفيضات جوهرية فى قيمة الجنيه المصري أمام الدولار خلال الشهور الأخيرة من 15.4 إلي 19.4 جنيه/ دولار مما يعني تخفيضا نحو 26% فى قيمة الجنيه ، وهو ما يعني فى نفس الوقت زيادة فى قيمة الطن المصدر بنفس النسبة . هذان المتغيران ، زيادة السعر العالمي لليوريا وزيادة قيمة الدولار أمام الجنيه ، من شأنهما زيادة ضغوط الشركات لتصدير نسبة أكبر من الإنتاج زيادة عن النسبة المخصصة للتصدير (35%) حتي لو كان علي حساب الكميات الموجهة للسوق المحلي (المزارعين).ولإيقاف هذا التغول علي نصيب السوق المحلي والذي من شأنه الإضرار بإنتاج الغذاء ، لجأت الحكومة إلي مضاعفة رسم التصدير علي الأسمدة من 500 إلي 2500 جنيه علي الطن المصدر.
ولكن حتي هذا الرسم المرتفع لم يكن مانعا فعالا يحول دون التغول علي حصة السوق المحلي وذلك يعزي ببساطة إلي أن الهامش الكلي بين سعر التصدير وتكلفة الإنتاج يفوق بكثير رسم التصدير.عندما كانت الشركات تستلم الغاز الطبيعي من الحكومة ب 4.5 دولار للمليون وحدة حرارية ، كانت تكلفة إنتاج الطن تقدر بنحو 4000 جنيه ، بينما لا يقل سعر التصدير عن 12000 جنيه مما يترك هامشا ربحيا صافيا (بعد دفع رسم التصدير) نحو 5500 جنيه أي ما يعادل 137.5% من التكلفة.
الاستحواذ السعودي الإماراتي علي قرابة نصف شركتي أبوقير وموبكو
الشركتان ، شركة أبوقير للأسمدة وشركة مصر لإنتاج الأسمدة”موبكو” ، هما أكبر شركتين لإنتاج الأسمدة ، وبخاصة الأسمدة النيتروجينية، فى مصر، وتملكهما الحكومة فى إطار قطاع الأعمال العام. ويبلغ إنتاج الشركتين معًا من الأسمدة نحو 4.3 مليون طن خلال العام المالي 2021/2022 . منها 2.3 مليون طن من إنتاج شركة أبوقير للأسمدة. و2 مليون طن من إنتاج موبكو. ويشكل إنتاج الشركتين نحو 72% من الإنتاج الكلي من الأسمدة الآزوتية فى مصر والبالغ نحو 6 مليون طن سنويا.
ومن ثم فهما يساهمان بالجزء الأكبر فى حصة السوق المحلي المدعومة، البالغة نحو 3.3 مليون طن. وقد حققت شركة أبوقير صافي ربح يزيد عن 9 مليارات جنيه خلال عام 2021-2022 مقابل 3.5 مليار جنيه خلال العام السابق، وبنسبة زيادة 158%.
وخلال الأشهر الماضية استحوذت السعودية والإمارات على نسبة 41.3% من شركة أبوقير للأسمدة، منها 19.8% لصندوق الاستثمارات السعودي. ونسبة 21.5% للصندوق السيادي الإماراتي. كما استحوذت الدولتان أيضًا على نسبة 45% من شركة مصر لإنتاج الأسمدة “موبكو” ، منها 20% للصندوق السيادي الإماراتي. و25% لصندوق الاستثمارات السعودي.
ما يهمنا التأكيد عليه فيما يتعلق عليه بالنسبة لهذا الاستحواذ ، هو أن “الأمن السمادي” هو أحد مقومات الأمن الغذائي المصري ، الأمر الذي يفرض علي هذه الشركات الالتزام بالوفاء بحصة السوق المحلي، الأمر الذي من المفترض أنه تم التأكيد عليه ضمن عقود الاستحواذ حتي لا يتعرض الأمن الغذائي المصري للخطر أو تضارب المصالح..
سعر الغاز الطبيعي والمعادلة الجديدة والسعر المدعوم للسماد
فى اكتوبر 2021 رفعت الحكومة سعر الغاز الطبيعي المورد للشركات من 4.5 إلي 5.75 دولار للمليون وحدة حرارية (قرار مجلس الوزراء رقم 2902).وإزاء التطورات والمتغيرات السابق الإشارة إليها ، أنشات الحكومة نظاما جديدا يتم التعامل عليه بالنسبة لسعر الغاز الطبيعي .
ففى سبتمبر الحالي صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 3221 لسنة 2022 بأن يحدد سعر بيع الغاز الطبيعي المورد لصناعة الأسمدة الأزوتية وفقا للمعادلة السعرية التالية :-
سعر الغاز (دولار أمريكي / مليون وحدة حرارية بريطانية )= (سعر بيع طن اليوريا المورد لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي بعد خصم الضرائب * نسبة التوريد المقررة للوزارة / 60 ) + ( سعر بيع تصدير طن اليوريا خلال الشهر السابق لشهر المحاسبة ) * (1- نسبة التوريد المقررة لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي ) / 60) وفي جميع الأحوال لا يقل الحد الأدنى لسعر البيع عن 4.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.
ويتضح من هذه المعادلة نقاط عدة مهمة ، فسعر الغاز الطبيعي لم يعد ثابتا كما كان عليه فى السابق وإنما أصبح متغيرا يتحدد علي مستوي كل شركة منتجة ومن شهر إلي آخر من خلال سعر بيع طن اليوريا المدعم (للمزارعين) ونسبة ما تورده الشركة من إنتاجها للسوق المحلي وسعر التصدير (لليوريا).ومع ذلك فإن تطبيق هذه المعادلة ، وهو لم يتضح بعد عمليا، يكتنفه الكثير من الغموض والتعقيد. المفترض أن سعر بيع طن اليوريا ثابت ولا يتغير من شركة إلي أخري ، الأمر الذي يحدث ارتباكا شديد ، وقد يفتح بابا واسعا للفساد .
وكذا الأمر بالنسبة لسعر التصدير، هل يمكن تتبع صادرات كل شركة شهريا؟.ثم لنفترض أن شركة ما لن تورد شيئا لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي (أي للسوق المحلي) فسوف تحصل علي الغاز الطبيعي بالسعر العالمي ، وهو حاليا 9 دولارات للمليون وحدة حرارية،سوف يترتب علي تكلفة إنتاج لطن اليوريا حوالي 7000 جنيه ، تستطيع أن تصدره ب 12000 جنيه.
وهذه الشركة تكون فى وضع ربحي افضل من شركة تورد نصف إنتاجها للسوق المحلي وتحصل علي الغاز الطبيعي ب 7 دولارات للمليون وحدة حرارية ، وتنج الطن بتكلفة 5500 جنيه للطن.فهى كسبت وفرا فى تكلفة الإنتاج 1500 جنيه للطن ولكنها خسرت 3000 جنيه بعدم التصدير. الأمر إذن يقتضي إحكام المعادلة وإجراء التجارب عليها ، خاصة أنها تهمل الجزء الخاص بالسوق الحر والذي تتوسط أسعاره فى الأغلب بين السعر المدعوم وسعر التصدير.
أ.د. جمال صيام
أستاذ الاقتصاد الزراعي
كلية الزراعة ، جامعة القاهرة