الدكتور إسماعيل عبد الجليل يكتب : البروفيسور عبده شطا .. كيف شق العباقرة طريقهم؟
اليوم السبت 5 ديسمبر يوافق ذكرى مرور عشر سنوات على رحيل عالمنا واستاذنا وقدوتنا البروفيسور عبده شطا الذى ارتبطت به وسعيت الى تكريمه ما استطعت بما يستحق حتى نال جائزه الدوله التقديريه التى تستلزم حشدا سياسيا للأسف بالرغم من استحقاق المرشح لها وهو صاحب مدرسه علميه كبيره فى مصر والوطن العربى والعالم .
البروفيسور عبده شطا رحل بجسده ولكن ابحاثه لا زالت شاهده على عبقريته ولذا فأننى اهدى قصته كما رواها فى كتيب تكريمه الى شباب مركز بحوث الصحراء وغيرهم فى مراكز البحوث والجامعات ليعرفوا كيف شق العباقره طريقهم لعلهم يهتدون بها ويستفيدون منها :
مشوار حياتى بدأ بمولدى فى 18 ديسمبر 1920 بقرية المطرية بمركز المنزلة محافظةالدقهلية.. بدأت رحلة طفولتى في الجزء الشرقي من براري شمال دلتا نهر النيل ، أي في محيط بحيرة المنزلة في براري شمال الدلتا البيئة مفتوحة وتستطيع أن تنتقل في جنباتها بدون قدر كبير من المشقة و حتى المستنقعات المائية يمكن التجول فيها مشيا على الأقدام أو باستخدام نوع من الفلايك الخشبية . في براري شمال الدلتا كانت نشأتى حيث كانت أسرتى تمتلك ورشة مفتوحة لصناعة الفلايك حيث توارثت العمل في صناعة أدوات صيد السمك ، وعندما كنت طفلا ذهبت الي الورشة شأني شأن باقي أبناء العائلة ، ولكنني كنت أهرب منها وأتجول علي شاطئ بحيرة المنزلة أجمع الصدف والعملات القديمة والزجاج الملون والأشياء التي تعلن عن بقايا الاثار المصرية الغارقة تحت سطح البحيرة ، ولإنني فشلت في تعلم “صنعة” بناء “الفلايك” عاقبوني بالتعليم ودخلت مدرسة “المنزلة الابتدائية” ، حيث كنت أسافر يوميا من قريتي إلي المنزلة حيث قابلت الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود وكان يدرس لنا اللغة الإنجليزية .
وبعد انتهائي من المرحلة الابتدائية كان لابد أن أكمل دراستي في المرحلة التوجيهية وكان أخوالي في نفس سني وكانت أقرب مدرسة لدينا في “بورسعيد” ، فعرفت “الغربة” في سن الثانية عشر والتحقت بمدرسة “بورسعيد الثانوية” حيث تقابلت مع الأستاذ حامد نبيه و كان أحد مدرسي الأمير فاروق و تقابلت مع المسيو جيرمون وهو فرنسى يجيد اللغة العربية الفصحى. وقمت أنا “وأخوالي” بتأجير بيت كبير في بورسعيد مكون من اربع حجرات وكان الايجار 120 قرشا! وكانت وجبة الغداء تأتينا يوميا من القرية عن طريق “لنش” يتحرك من قريتي الي بورسعيد يوميا يصل إلينا حوالي الساعة الرابعة عصراً أما تعليمي الثانوي فقد أكملته مغتربا في مدينة بورسعيد
وأثناء السنة الاخيرة في التوجيهية حددت لاول مرة هدفي ، وهو دراسة “الجيولوجيا” وبالتالي دخول كلية العلوم بدلا من كلية الطب ، ورغم ان ترتيبي جاء رقم “200” علي المستوي العام لمصر فإن مجموعي “67.5%” وكنت الأول علي المنطقة التي تضم بورسعيد والسويس والاسماعيلية وأهلني مجموعى لدخول كلية الطب مجانا!! التحدي كان السبب الرئيسي في تغير طريقى. حيث كان حلم اسرتى دخولى كلية الطب بينما كان اختيارى هو كلية العلوم.
و قد يكون مبررى ان ذاك أن مدرس الكيمياء كان يقوم بتدريس مادة “الجيولوجيا” بطريقة غير مفهومة لنا كطالبة وكنا نشعر بانه يحفظها لنا كنص شعري وعندمنا كنا نساله عن شيئ كان يقول : لا “أعرف” ولهذا السبب دخلت مع نفسي في تحد لتعلم هذه المادة التي تبحث في علوم الارض..
ولإنني كنت محظوظاً بمستوي التعليم في ذلك الوقت فقد قام بتدريس اللغة الانجليزية لي العالم الكبير د.”ذكي نجيب محمود” وكان استاذى في المرحلة الابتدائية ، وفي المرحلة الثانوية كان يدرس لنا “حامد نبيه” مدرس الملك فاروق ، وكان من يدرس لنا اللغة الفرنسية استاذا فرنسيا ، فحصلنا علي مستوي من التعليم أعلى ما يكون ورغم أنني كنت أحب القراءة وكنت حريصا علي شراء جريدة “البالغ” بقرش تعريفه والأهرام أيضا كما انني قرات المازني وهيكل والغزالي والعقاد وعبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم وخاصة روايته “عصفور من الشرق” قرأتها عددة مرات ولكن كانت ميولي علمية وبالتالي قررت دخول كلية العلوم قسم جيولوجيا وكان العدد المطلوب لهذا القسم 25 طالبا وتقدم 125 ولكن أحد الاساتذة قام بإلقاء محاضرة علينا كانت نتيجتها هروب 100 طالب وبقي 25 ورغم أنها كانت مادة جديدة إلا انني لا أعترف بالمستحيل ولا بصعوبة اي شيئ فوجدتها مادة ممتعة وفيها أفاق علمية وتاكيداً لمعرفة قدرة الخالق العظيم وخاصة عندما ننظر إلي الجبال ونتأمل الصخر وأتذكر مقولة “وليم شكسبير” وهي في الصخور عظة.
بعد تخرجي من الجامعة ذهبت إلي بلدتي 15 يوم والهواية الوحيدة التي كنت أمارسها هي صيد السمك كنوع من الاسترخاء والتفكير ورفضت اقترح والدي بالبقاء والعمل كمدرس في قريتي لانني قررت العمل في احدى شركات البترول لمدة 10 سنوات ثم الاستقالة والزواج والعمل في مجال اخر وعدت الي القاهرة حيث كنت اعيش في ميدان فاروق – ميدان الجيش حاليا – ووجدت عندي 6 خطابات تحمل ترشيحي في مصالح مختلفة ولكنني كنت ارغب في العمل في شركة بترول فرفضت هذه العروض وذهبت ابحث عن شركة بترول ورحبت بي “شركة إسو” وتم تعيني “جيولوجي حقل” وعملت في هذه المهنة لمدة 7 سنوات تعلمت فيها تعليما جيدا علي يد خبراء من الولايات المتحدة ، ثم حدثت مشكلة بين الشركة والحكومة المصرية وقتها فاغلقت الشركة مقرها في مصر ، وحصلت علي عمل في السعودية وطلبو مني السفر ، ولكنني اعتذرت عن السفر الا اذا تمت معاملتي مثل الخبراء الامريكان ولكنهم رفضوا فإعتذرت.
وقررت العودة الي قريتي للعمل كمقاول في صناعة المراكب وترك العلم نهائياً وبالصدفة التقيت باحد اصدقائي فاخبرني عن انشاء معهد فؤاد الاول للصحراء وكان ذلك عام 1949 فذهبت الي مقابلة المسؤلين هناك ، وكان منهم رجل عظيم هو د. محمد متولي مرسي استاذ الجغرافيا في جامعة القاهرة ، وتم تعييني فورا اميناً لمتحف معهد فؤاد الاول للصحراء الذي تم افتتاحه في ديسمبر 1950 بحضور الملك فاروق ورئيس الوزراء مصطفي النحاس باشا ووزير المعارف د/ طه حسين بيك الذي انعم عليه بعد هذا الافتتاح” بـالباشاوية” في نفس اليوم.
ولم تعجبني هذه الوظيفة فطلبت ان اكون في اول بعثة استكشافية لمعهد فؤاد الاول في شمال شرق سيناء ، وطلبت ان يؤذن لي باختيار منطقة في هذه المساحة الكبيرة لتسجيل درجة الماجيستير وبالفعل قمت بالبحوث في منطقة اسمها “المنشرح” في شمال سيناء وركزت علي موضوع البترول والمياه الجوفية وحصلت علي الماجستير بعد عام واحد ، ثم حصلت علي الدكتوراه عن احدي مناطق خليج السويس.
تعلمت منذ صغري مبدأ القناعة والرضا ، اما المال فهذا رزق ، ولكن الاهم ان نعمل ونجتهد دون النظرالي المقابل المادي فقد حصلت علي جائزة الدولة التشجيعية مرتين دون ان اتقدم لها كما حصلت علي جائزة الابداع العلمي عام 1985 ولم اتقدم لها ايضا ، وجائزة الرئيس مبارك الاخيرة قدمت لها بعد إلحاح وضغط ، وكنت راضياً بمرتبي كاستاذ متفرغ واحصل علي معاشي ايضا واعلي اجر حصلت عليه كان في مهمة بايطاليا ، حيث قدمت عدد من المحاضرات واخذت نصف مليون ليرة بالفعل ..
وانا أسمع كثيراً عن الأرقام التي يحصل عليها نجوم الكرة والفن ، ولكني لا اغضب لأن الرزق بيد الله والإكتفاء قناعة وثروة وما أجمل أن نعيش الحياة دون جشع أو طمع وقد علمت أبنائي الأربعة هذه القناعة ، أنا أب لثلاث بنات وأبن واحد وعندي ثمانية من الأحفاد وهذه ثروتي الحقيقية.