الدكتور إبراهيم درويش يكتب : السد العالي.. 65 عامًا من التحدي والتحرير

أخبار, تكنولوجيا الزراعة, رئيسي, مقالات, مياه ورى ,

قبل 65 عامًا، لم يكن المصريون يشهدون بناء سد عادي، بل كانوا يعيشون ملحمة وطنية ستغير حياتهم للأبد. السد العالي لم يكن جدارًا من الخرسانة على مجرى النيل فحسب، بل كان مشروعًا للتحرر والسيادة والتنمية، حمل توقيع جمال عبد الناصر وإرادة أمة أرادت أن تتحكم في مصيرها.

معجزة هندسية وسياسية

في عام 1960، بدأت أعمال بناء السد بطول يقارب 4 كيلومترات وارتفاع 111 مترًا، ليحجز خلفه بحيرة ناصر، أكبر خزان مائي صناعي في العالم بطاقة تخزين تتجاوز 132 مليار متر مكعب.

لكن التحدي لم يكن هندسيًا فقط، بل سياسيًا أيضًا. فبعد انسحاب البنك الدولي بضغط من الغرب، قررت مصر أن تنجز المشروع بدعم من الاتحاد السوفيتي، في خطوة اعتبرها العالم تحديًا جديدًا في قلب الحرب الباردة.

كيف غيّر السد العالي حياة المصريين؟

السيطرة على النيل قبل السد، كان المصريون يعيشون بين فيضانات مدمرة وجفاف قاسٍ. بعده، أصبح النيل منظمًا على مدار العام، يحمي الأرض من الغرق والعطش في آن واحد.

زراعة بلا توقف

السد فتح الباب أمام زراعة مستمرة بدلًا من الاعتماد على مواسم الفيضان فقط. ارتفعت الرقعة الزراعية بنسبة 30% منذ السبعينيات، وزادت الإنتاجية بفضل الدورات الزراعية المتعددة. هكذا أصبح الأمن الغذائي أكثر استقرارًا.

الكهرباء.. نور الثورة الصناعية

حين بدأ تشغيله في السبعينيات بقدرة 2.1 غيغاواط، غطى السد أكثر من نصف احتياجات مصر من الكهرباء، ووصل النور إلى آلاف القرى لأول مرة. واليوم، رغم تراجع نسبته إلى نحو 10–13% من الإنتاج، فإنه ما زال يوفر طاقة نظيفة ومستدامة ويوفر ملايين الدولارات من استيراد الوقود.

بحيرة ناصر.. خزان ومصدر حياة

البحيرة التي تمتد لنحو 650 كيلومترًا بين مصر والسودان، ليست مجرد خزان مائي يحمي البلاد من موجات الجفاف، بل هي أيضًا مصدر رئيسي للثروة السمكية، إذ تنتج نحو 12 ألف طن سنويًا، وتغذي مشروعات استصلاحية كبرى مثل توشكى والدلتا الجديدة.

الصعيد.. بداية العدالة التنموية

الكهرباء والطرق الجديدة غيرت وجه الصعيد. القرى المظلمة أضاءت، والمصانع بدأت تظهر، لتقل الفجوة بين الدلتا والصعيد.

الوجه الآخر: البيئة والمجتمع

لم يكن المشروع بلا ثمن. حُجز الطمي وراء السد، فاضطر الفلاحون لاستخدام الأسمدة الكيماوية، كما تآكلت بعض شواطئ المتوسط بعد انخفاض اندفاع النيل. لكن هذه التحديات تظل محدودة أمام ما جلبه من استقرار وحماية من الفيضانات.

أما اجتماعيًا، فكان التحدي الأكبر هو تهجير نحو 100 ألف نوبي بعد أن غمرت البحيرة قراهم. ورغم جهود التعويض، ظلت هذه القصة علامة على التضحيات الكبرى التي رافقت مشروع السد.

ماذا لو لم يُبنَ؟

الإجابة جاءت في الثمانينيات حين ضربت موجة جفاف قاسية أفريقيا. لولا السد، لجفت الأراضي المصرية وانهارت الزراعة. تقديرات اقتصادية تشير إلى أن عوائده تراوحت بين 7 و10 مليارات جنيه بأسعار 1997، أي ما يعادل 3–4% من الناتج المحلي الإجمالي وقتها.

بين عمالقة السدود

اليوم، يقارن البعض بين السد العالي وسدود ضخمة مثل “الممرات الثلاثة” في الصين أو “إيتايبو” في البرازيل. صحيح أن قدرته الكهربائية أقل بكثير، لكن قيمته ليست في الأرقام فقط، بل في أنه غيّر مصير أمة بأكملها، بينما خدمت السدود الأخرى اقتصادات قوية بالفعل.

أهميته اليوم

مع تصاعد أزمة سد النهضة الإثيوبي وتغير المناخ، تتجدد أهمية السد العالي كصمام أمان استراتيجي لإدارة حصة مصر المائية. ومع خطط تطوير محطاته لزيادة قدرته إلى 2.4 غيغاواط بحلول 2028، يواصل دوره كركيزة للطاقة النظيفة.

كيف نعظم الاستفادة من السد العالي؟

المستقبل يفرض التفكير في رفع كفاءة السد واستغلال بحيرة ناصر بشكل أفضل. يمكن تحديث التوربينات لزيادة إنتاج الكهرباء، وتطوير أنظمة الرصد والتنبؤ للتخزين الذكي. كما أن تنظيم الاستزراع السمكي سيضاعف الإنتاج ويحد من الصيد العشوائي. ومع استخدام تقنيات ري حديثة، يمكن توسيع الرقعة الزراعية بمياه البحيرة. وحتى السياحة البيئية يمكن أن تجد مكانًا حولها لتضيف بعدًا اقتصاديًا جديدًا.

الخلاصة

السد العالي ليس مجرد بناء ضخم، بل قصة تحدٍ وحرية وتنمية. حرر مصر من تقلبات النيل، وفر الكهرباء التي أطلقت نهضتها الصناعية، وأمّن مياهها وزراعتها. وبعد 65 عامًا، يظل رمزًا حيًا لقدرة المصريين على تحويل الحلم إلى واقع. إنه بحق مشروع القرن الذي غيّر وجه مصر إلى الأبد.
ا.د / ابراهيم درويش