الدكتور إبراهيم درويش يكتب : ميلاد الأنبياء ومولد سيدنا محمد ﷺ.. سرّ العناية الإلهية ورسالة الخلود” (نفحات الجمعة)

أخبار, رئيسي, مقالات ,

إن الاحتفاء بذكرى مولد سيد الخلق محمد ﷺ ليس مجرد طقس اجتماعي، بل هو استحضار لمعنى قرآني عظيم، وفلسفة إلهية عميقة. وما أحوج أمتنا اليوم أن تجعل من هذه الذكرى محطة لمراجعة الذات وتجديد العهد بالرسالة، فالميلاد النبوي ليس حدثًا تاريخيًا عابرًا بل رسالة خالدة…
لانه للأسف البعض من قليلي العلم ينظرون إلى من يحتفلون بمولد النبيﷺ على أنهم يرتكبون جرمًا أو معصية، ويعتقدون اعتقادًا خاطئًا أن الأنبياء والرسل يُنظر إليهم منذ بعثتهم فقط، وهذه سقطة علمية ومنهجية.

فالأنبياء والرسل لم يكونوا مجرد شخصيات تاريخية برزت لحظة البعثة، بل هم مصطفون من قبل ميلادهم، مُهيأون برسالة، محاطون بعناية الله منذ اللحظة الأولى. ولو لم يكن للميلاد قيمة عظيمة، لما سجل القرآن الكريم آيات بينات تصف ميلادهم ونشأتهم وتفاصيل حياتهم المبكرة.

إن تسجيل القرآن لميلاد الأنبياء ليس حدثًا عابرًا، بل هو فلسفة إلهية تؤكد أن ميلادهم بداية مشروع رباني عظيم لإصلاح الأرض، وأن الرسالة لا تأتي فجأة، بل تسبقها عناية وتربية وإعداد. وما أحوج أمتنا اليوم أن تجعل من هذه الذكرى محطة لتجديد العهد مع رسالة الأنبياء، وفي مقدمتهم خاتمهم محمد ﷺ.

عناية الله بالأنبياء إعدادًا لحمل الرسالة

الرسالات السماوية لم تكن يومًا صدفة أو قرارًا بشريًا، وإنما اختيار إلهي محكم، قال تعالى:﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124].
وهذا قانون إلهي عظيم: أن كل مهمة عظيمة لا بد أن يسبقها إعداد طويل، وتربية دقيقة، وصقل للنفوس بالابتلاءات والتجارب، حتى يكون النبي أهلاً لحمل أمانة الوحي وتبليغ رسالة السماء للبشرية….
وهنا يظهر البعد التربوي: فذكر ميلاد الأنبياء يربي الأجيال على فهم أن كل نجاح وقيادة لا تأتي فجأة، وإنما تسبقها مراحل إعداد وصبر وابتلاء.
إن في ذلك درسًا عمليًا للوالدين والمعلمين بأن يربوا أبناءهم على الصبر والجدّ وتحمل المسؤولية.

فلسفة ذكر ميلاد الأنبياء والرسل في القرآن الكريم

لم يكن ذكر الميلاد في القرآن مجرد تاريخ أو رواية، بل هو رسالة وعبرة…
لذا نجد أن ميلاد نبى الله موسى عليه السلام آية على أن قدرة الله تعلو جبروت الطغاة.
وميلاد نبى الله يحيى عليه السلام معجزة في قلب العقم والشيخوخة.
وميلاد نبى الله عيسى عليه السلام بلا أب آية للعالمين على قدرة الله المطلقة.
أما ميلاد نبى اللهو محمد ﷺ، فإعلان لمرحلة الخلود الرسالي للبشرية جمعاء.
وهنا يبرز البعد الحضاري…
فالأمم الراقية تحتفي بعظمائها وتخلّد ذكراهم، فكيف لا تحتفي أمة الإسلام بخاتم الأنبياء وسيد المصلحين ﷺ ، الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وربط الأرض بالسماء؟

نماذج ومقارنة بين ميلاد الأنبياء والرسل في القرآن الكريم ودلالتها

القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ أو سيرة، لكنه حين يذكر ميلاد نبي أو نشأته فإنه يقصد رسالة عميقة ودلالة إيمانية.وقد اهتم القرآن بذكر ميلاد بعض الأنبياء تفصيلًا (مثل انبياء الله موسى ويحيى وعيسى عليهم السلام)، وأغفل تفاصيل ميلاد آخرين (مثل انبياء الله نوح وإبراهيم ومحمد ﷺ) ليؤكد أن العبرة ليست بالميلاد وحده وإنما بالرسالة.
ومن هنا نتعلم أن الاحتفاء بميلاد الأنبياء والرسل إنما هو اقتداء بالقرآن الذي سجّل هذه الأحداث، لنستلهم منها دروس الإيمان والصبر واليقين، ولنجعل من ذكراهم مناسبة لتجديد العهد مع رسالتهم.

نماذج من ميلاد الأنبياء في القرآن الكريم

اولا- ميلاد نبى الله موسى عليه السلام
يقول تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ…﴾ [القصص:7].
وُلد في زمن بطش فرعون، لكن العناية الإلهية حفظته. تربى في بيت فرعون فاكتسب الحكمة والسياسة، ثم عاش في مدين ليتعلم الصبر والعمل.
الدلالة: ميلاده ارتبط بالخطر على حياته وبالنجاة من المخاطر، ليكون شاهدًا على أن العناية الإلهية تسبق الرسالة.

 

ثانيا — ميلاد نبى الله يحيى عليه السلام

﴿يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ﴾ [مريم:7].
وصفه الله منذ صغره: ﴿وَآتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّٗا * وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا…﴾ [مريم:12-13].
الدلالة: ميلاده كان معجزة، واسمه منحة إلهية، ونشأته في الطهر والعفة رمز للنقاء الإنساني.

ثالثا – ميلاد نبى الله عيسى عليه السلام

﴿إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا﴾ [مريم:30].
ولد بلا أب، واصطفاء لمريم عليها السلام: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ…﴾ [آل عمران:42].
الدلالة: ميلاده معجزة غير مسبوقة، وإعلانه العبودية لله منذ المهد ردّ على كل غلوّ، ورسالة توحيد من أول لحظة.

رابعا – ميلاد نبى الله يوسف عليه السلام
———————————
نشأ في بيت نبوة، وابتُلي منذ صغره بالمحن حتى صار عزيز مصر: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلْأَرْضِ﴾ [يوسف:21].
الدلالة: لم يذكر القرآن تفاصيل ميلاده، لكن قصته ترسم طريق الصبر والتمكين.

ميلاد إبراهيم عليه السلام
——————————————
وُلد في بيت وثنية، لكنه منذ صغره واجه الباطل بعقل نير حتى قال الله فيه: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗا﴾ [البقرة:124].
الدلالة: ميلاده في بيئة مظلمة ثم إشراق التوحيد منه يؤكد أن الله يخرج النور من قلب الظلام.

ميلاد ونشأة النبي محمد ﷺ
—————————————
ثمرة دعوة إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولٗا مِّنْهُمْ﴾ [البقرة:129].
ولد يتيمًا لتكون رعايته بيد الله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ﴾ [الضحى:6].
نشأ على الصدق والأمانة، وأهّله الله بالرعي والتجارة، حتى جاءه الوحي وهو في الأربعين.
الدلالة: ميلاده ارتبط بعناية الله الخاصة، ونشأته في اليتم إعداد ليكون رحمة للعالمين.

مقارنة بين دلالات الميلاد النبوي
——————————————-
نجد ان ولادة نبى الله آدم ونبى الله عيسى عليهما السلام كانت معجزة خارج قوانين البشر.
وكذلك ولادة نبى الله يحيى وإسحاق عليهما السلام جاءت في ظروف مستحيلة.
ونجد أن ولادة نبى الله موسى و نبي الله محمد ﷺ ارتبطت بالاضطهاد، لكنها محفوظة بالعناية الإلهية.
أما انبياء الله نوح وإبراهيم ويوسف، فالتركيز على الرسالة والصبر والتمكين.وهكذا نفهم أن ميلاد الأنبياء بداية رسالة، وأن الاحتفاء بميلادهم إحياءٌ لما أحياه القرآن.

الذين يمنعون الاحتفال بميلاد الأنبياء مخالفون لفلسفة القرآن ومقاصده
—————————————–
من يعارضون تذكر ميلاد الأنبياء بدعوى “البدعة”، يغفلون أن الله نفسه قصّ ميلادهم في القرآن، وجعل ذلك وسيلة للعبرة. فالاحتفال بالمولد ليس عبادة جديدة، بل تجديد للعهد مع الرسالة.
كما أن الاحتفاء بذكرى الميلاد ليس المقصود به الزينة أو المظاهر فقط، بل استحضار الرسالة وتعليم الأجيال معاني الرحمة والعدل. يقول تعالى:﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلْأَلْبَٰبِ﴾ [يوسف:111].
وفي السنة، قال النبي ﷺ عن صوم يوم الاثنين: “ذلك يوم وُلدت فيه” (رواه مسلم). وهو أصل في مشروعية تذكر الميلاد والاحتفاء به.

ختامًا
————
لقد كان مولد النبي ﷺ نورًا أضاء الكون:
قال العباس بن عبد المطلب: “وأنت لما ولدت أشرقت الأرض”.
وقال حسان بن ثابت: “كان وجهه نورًا يضيء”.
وقال البوصيري: “كيف يدرك في الدنيا حقيقته قومٌ نيام”.
وقال أحمد شوقي: “ولد الهدى فالكائنات ضياء”.
إن ذكرى المولد دعوة للحب والاقتداء، للتربية على مكارم الأخلاق، ولتثبيت معاني العدل والرحمة في مجتمعاتنا.
فالاحتفال بمولد النبي ﷺ ليس مظهرًا بل منهجًا، وليس تقليدًا بل تجديدًا، وهو فرصة لنعيش مع رسالته ونستلهم نوره.
اللهم اجعلنا من المحبين لنبيك، المقتدين بسيرته، السائرين على نهجه، وارزقنا في الدنيا اتباعه، وفي الآخرة شفاعته، واحشرنا في زمرته، واجعل هذه الأمة متمسكة بكتابك، متحدة على كلمتك، رافعة راية الحق والعدل والرحمة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
جمعتكم طيبة مباركة
وكل عام وانتم بخير
ا.د / ابراهيم حسينى درويش