مقدمة
دخلت مصر تحت خط الفقر الفقر المائي (1000 متر مكعب سنويا) منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي وبالتحديد قى 1991، بانخفاض نصيب الفرد من المياه عن 990 متر مكعب سنويا. ومن المتوقع أن يستمر فى الانخفاض ، مع استمرار النمو السكاني (بمعدل نحو 1.5% سنويا) وثبات الموارد المائية العذبة (59.7 مليار متر مكعب). وبينما يبلغ فى الوضع الراهن (2025) نحو 553 متر مكعب، فسوف ينخفض إلي مستوي خط الشح المائي (500 متر مكعب) فى 2032 عندما يبلغ عدد السكان نحو 120 مليون نسمة .
وينخفض إلي نحو 383 متر مكعب فى 2050 عند وصول عدد السكان إلي 156 مليون نسمة. (انظر شكل 1). ولا تقتصر الأزمة المائية فى مصر علي اختلال العلاقة السكانية/المائية علي هذا النحو، بل يجري تكريسها بمواجهة عدد من التحديات الكبري، يأتي فى مقدمتها التغيرات المناخية وسد النهضة وغيره من السدود الإثيوبية المزمع إقامتها علي النيل الأزرق، فضلا عن مشاريع التوسع الزراعي الأفقي العملاقة التي تتطلب كميات كبيرة من مياه الري. وتشكل هذه التحديات ضغطا هائلا علي الموارد المائية المحدودة التي تمثل مياه النيل 93% تأتي من خارج مصر.
وتحاول هذه الدراسة تقدير الميزان المائي لمصر لعام 2050 آخذاً فى الأعتبار آثار الزيادة السكانية والتغيرات المناخية وسد النهضة سواء بصورة منفردة أو بصورة تراكمية.
ويعطي مثل هذا الميزان صورة تقريبية للوضع المستقبلي للمياه فى مصر بحلول منتصف القرن. وهو أمر مهم بالنسبة لصانعي القرار فى مجال صياغة الاستراتيجيات والسياسات المائية خلال الربع قرن القادم.
والواقع أن رغم كثرة الحديث عن هذه التحديات سواء فى إطار مؤتمرات أو ندوات أو ورش عمل أو فى صورة بحوث تتعلق بالمياه، فما زال متخذ القرار يفتقد توافر مؤشرات كمية لأثر هذه المتغيرات علي الوضع المائي علي المديين المتوسط والطويل. ودون مثل هذه المؤشرات، يظل إتخاذ القرار أمراً صعباً ، ويتم التوصل إلي قرارات وإجراءات غير صائبة تؤدي فى الأغلب إلي هدر وضياع كبير فى المياه كمورد يتسم بالندرة فى الإطار المصري.
وتجدر الإشارة إلي أن الميزان المائي الناتج عن هذه الدراسة هو مجرد تقدير أولي، يستند إلي كثير من الافتراضات، وقد قصد به كما يتضح بالعنوان ، إطلالة علي الوضع المستقبلي للمياه بعد ربع قرن من الآن ، تفتح المجال لدراسات شاملة ومتعمقة ينبغي أن تتم من قِبل فرق متنوعة التخصصات فى مجالات المياه والزراعة والاقتصاد.
شكل 1 : تقديرات عدد السكان ومتوسط نصيب الفرد من المياة خلال الفترة 1990 – 2050.
تقدير آثار الزيادة السكانية والتغيرات المناخية وسد النهضة علي الميزان المائي
أولا: الزيادة السكانية
يبلغ عدد السكان نحو 100 مليون نسمة فى 2020 ويتوقع أن يزيد الى 156 مليون نسمة فى 2050 بزيادة بنسبة 56%، وهذا يعني زيادة فى استخدامات الشرب والصناعة من 16.9 إلي 26.4 مليار متر مكعب ، أي بزيادة قدرها 9.5 مليار متر مكعب ، (علي أساس افتراض ثبات نصيب الفرد من هذه الاستخدامات عند 169 متر مكعب سنوياً). وفى نفس الوقت سوف يتم خصم هذه الزيادة بالضرورة من مخصصات مياه الري من المياه العذبة البالغة حاليا 40 مليار متر مكعب، الأمر الذي يستتبعه نقص فى كمبة المياه المعاد استخدامها بنحو 3.6 مليار متر مكعب سنوياً. أي أن إجمالي ما تسببه الزيادة السكانية من زيادة فى الفجوة المائية يبلغ 13.1 مليار متر مكعب فى 2050. وتمثل هذه الزيادة نقصاً فى الموارد المائية الكلية بنسبة 16.2%.
ثانيا: التغيرات المناخية
يتوقع أن تؤثر التغيرات المناخية علي المياه بصورة مباشرة من جانبين، الأول يتمثل فى احتمالات الجفاف والجفاف علي الهضبة الإثيوبية تتحدد فى ضوء السيناريوهات المختلفة، والتي تؤثر بالضرورة علي إيراد النيل بدرجة تتوقف علي نوع السيناريو. أما الجانب الثاني فيتمثل فى زيادة الطلب علي المياه فى قطاع الزراعة نتيجة لتأثير الإحتباس الحراري علي زيادة المقننات المائية للمحاصيل. وهناك دراسات تتناول هذا الجانب بصورة كمية.
وكتقدير أولي يتوقع أن تزيد هذه المقننات فى المتوسط بنحو 8% (مع افتراض زيادة درجة الحرارة 1.5 درجة)، مما يعني زيادة فى الطلب علي مياه الري بنحو 4.9 مليار متر مكعب سنويا فى 2050. ويقابل هذا الأثر المباشر نقص في كمية المياه المعاد استخدامها يبلغ نحو 1.8 مليار متر مكعب، مما يرفع الأثر الكلي 6.7 مليار متر مكعب سنوياً ، ويمثل نحو 8.3% من الموارد المائية الكلية.
هناك تأثير ثالث للتغيرات المناخية وهو يتعلق بتأثير ارتفاع سطح البحر علي تملح الخزان الجوفي بالدلتا.
ثالثا: سد النهضة
اكتمل سد النهضة – طبقا لما أعلنه الجانب الإثيوبي- ويتم افتتاحه فى سبتمبر 2025 بعد أن امتلأت بحيرته ب 74 مليار متر مكعب تم حجزها من مياه النيل الأزرق.
ومن المخطط أن تقيم إثيوبيا ثلاثة سدود أخري علي النيل الأزرق (مندايا وكارادوبي و بيكو آبو) بطاقة تخزينية إجمالية تبلغ نحو 130 مليار متر مكعب.
كانت الفيضانات فوق المتوسط خلال ملء سد النهضة خلال السنوات الخمس (2021-2025) سبباً فى تخفيف أثر ملء السد علي حصة مصر المائية. إلا أن إحتمالات الجفاف والجفاف الممتد فى وجود هذه السدود تمثل تحديا كبيرا لحصة مصر المائية خاصة فى ظل عدم وجود اتفاق قانوني ملزم. وحتي فى ظل اتفاق ملزم فيما يتعلق بملء وتشغيل هذه السدود، فإن الفواقد المائية بسبب البخر والتسرب من بحيرة سد النهضة قد تصل إلي نحو 3 مليارات سنوياً تخصم من حصة مصر المائية.
وهذا يؤدي إلي نقص فى كمية المياه المعاد استخدامها بنحو 1.1 مليار متر مكعب. وعلي ذلك يتوقع أن يتسبب سد النهضة فى تخفيض الموارد المائية بنحو 4.1 مليار متر مكعب سنوياً.
وفى ضوء ما تقدم ، وكما يلخص جدول (1) ، يبلغ إجمالي تأثيرات الزيادة السكانية والتغيرات المناخية والسدود الإثيوبية نحو 23.7 مليار متر مكعب سنوياً خصماً من الموارد المائية الكلية فى 2050.
وهذا النقص سوف يتحقق فى الأغلب علي حساب القطاع الزراعي، وبذلك ينخفض نصيبه الى 37.9 مليار متر مكعب بنسبة انخفاض نحو 39%. وبينما تبلغ الفجوة المائية الظاهرة فى الوضع الراهن 21.4 مليار متر مكعب تمثل 26.4% من إجمالي الموارد المائية، فسوف ترتفع إلي 45.1 مليار فى 2050 تمثل نحو 56% من الإجمالي بسبب المتغيرات المذكورة.
رابعا: التوسع الزراعي الأفقي
تبلغ الرقعة الزراعية فى الوضع الراهن نحو 9.8 مليون فدان تستخدم نحو 61.6 مليار متر مكعب تمثل نحو 75% من جملة الموارد المائية. ومن ثم فإن أي توسع فى الرقعة الزراعية يمثل بالقطع عبئاً إضافياً علي الموارد المائية المحدودة ويوسع الفجوة المائية.
وفى هذا الصدد ، تقوم الدولة ، منذ 2015، بتنفيذ عدد من مشروعات التوسع الزراعي الأفقي العملاقة، بدأت بمشروع المليون ونصف مليون فدان، ثم مشروع الدلتا الجديدة ومشروع التوسع بسيناء ثم إعادة تأهيل مشروع توشكي.
وعند استكمال هذه المشروعات خلال السنوات الخمس القادمة، فإنها سوف تغطي مساحة زراعية تبلغ نحو 4 مليون فدان، ترفع إجمالي المساحة المزروعة إلي 13.8 مليون فدان، أي بزيادة تمثل نحو 41% من الرقعة الزراعية الحالية.
وهذا يعني أنه بفرض حصول القطاع الزراعي فى 2050 علي نفس مخصصاته الحالية من مياه الري (وهو أمر غير وارد) ، فإن نصيب الفدان المزروع من المياه ينخفض من نحو 6200 إلي 4400 متر مكعب ، أي بنسبة نقص 30%.
أما إذا أخذ فى الاعتبار النقص المتوقع نتيجة للزيادة السكانية والتغيرات المناخية والسدود الإثيوبية فيتوقع أن ينخفض نصيب الفدان من المياه إلي نحو 2700 متر مكعب، وهو تقريبا 44% من المعدل الراهن. الأمر الذي قد يترتب عليه تبوير مساحات غير قليلة من الأراضي الزراعية.
المتضمنات السياساتية المائية والاقتصادية للميزان المائي فى 2050
ينطوي الميزان المائي 2050 المحسوب فى إطار التغيرات المتوقعة فى عدد السكان والتغيرات المناخية وسد النهضة، فى ظل السيناريوهات المختلفة ،علي العديد من المضامين السياساتية خاصة فى مجال السياسات المائية والزراعية، نركز علي أهمها فيما يلي:
1) تشتد أزمة المياه فى مصرعما هي عليه فى الوضع الراهن، ويتعرض الأمن المائي المصري لمخاطر كبيرة، مع زيادة الفجوة المائية إلي أكثر من ضعف الفجوة الراهنة ، ودخول مصر مرحلة الشح المائي (نصيب الفرد أقل بنسبة 23% من مستوي الشح المائي المقدر عالميا ب 500 متر مكعب سنويا). الأمر الذي يزيد الضغوط علي القطاعات المستخدمة للمياه،وهي بالتحديد قطاعات الزراعة والإسكان والصناعة، وإن بدرجات متفاوتة.
2) مع اشتداد أزمة المياه تتزايد ندرتها الاقتصادية ، تترجم فى ارتفاع قيمتها الاقتصادية ، مما قد يضطر الدولة إلي تحميل مستخدميها السعر الحقيقي خاصة فى قطاعي الإسكان (مياه الشرب والاستخدام المنزلي) والصناعة.
3) تنطوي مرحلة الشح المائي علي احتمالات متزايدة لزيادة التلوث المائي وتدهور نوعية المياه، خاصة حالات خلط مياه الصرف الصحي غير المعالج بمياه الصرف الزراعي ، واستخدامها فى الزراعة لاسيما فى حالات غياب الصرف الصحي أو ضعف الرقابة أوضعف إنفاذ القانون.
4) إن أحد أهم التغيرات المتوقعة فى هيكل الميزان المائي وخاصة فى جانب الاستخدامات ، هو تناقص مخصصات القطاع الزراعي لحساب قطاعي الإسكان والصناعة ، باعتبار أن لهما الأولوية فيما يتعلق باستهلاك المياه العذبة. وكما أشارت نتائج الدراسة من المتوقع أن تتناقص مخصصات القطاع الزراعي بنحو 18.8 مليار متر مكعب أي بنسبة نحو 30.5%، وهو انخفاض جوهري ، يعني تبوير نحو 3 ملايين فدان ونقص الإنتاج الزراعي والغذائي بنفس النسبة وهو ما يمثل تهديدا للأمن الغذائي المصري.وفى هذه الحالة من المؤكد أن تلجأ مصر إلي مزيد من واردات الغذاء لتعويض هذا النقص المحتمل فى الإنتاج المحلي، مما يعني تعريض مصر إلي مزيد من الانكشاف علي المخاطر العالمية.
5) يمكن مواجهة قسم كبير من هذه التهديدات عن طريق إحداث تغييرات جوهرية فى السياسات المائية والزراعية.وفى هذا الصدد ، فإن استمرار السياسات الراهنة علي ما هي عليه فى مواجهة وضع الشح المائي، أمر يعمل علي تكريس وتفاقم الآثار السلبية للتحديات المشار إليها. ويمكن تنفيذ عدد من استراتيجيات الإدارة التي يمكن أن تزيد إلى أقصى حد القيم المتعددة للمياه المخصصة لإنتاج الغذاء، بما في ذلك تحديد مصادر المياه المخصصة للزراعة سواء المصادر الطبيعية أوغير التقليدية؛ وتحسين كفاءة استخدام المياه؛ وخفض الطلب على الغذاء وعلى استخدام المياه الناجم عنه؛ وتحسين المعارف المتعلقة باستخدام المياه لإنتاج الغذاء .
6) تعتمد السياسات الزراعية المتكاملة مع السياسات المائية علي الركائز التالية:
– التركيز علي تبني أسلوب التنمية الزراعية الرأسية :زيادة الإنتاج الزراعي من نفس كمية الموارد المائية، وهذا من شأنه رفع كفاءة استخدام المياهWater use efficiency .
ويشتمل هذا الأسلوب علي زيادة الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج الزراعي Total factor productivity بما فى ذلك زراعة الأصناف مرتفعة الإنتاجية High yield varieties (HYVs) واستخدام مستلزمات الإنتاج مرتفعة النوعية، وتبني الممارسات الزراعية الموقرة للمياه Wates-saving technologies .
– تضييق التوسع الزراعي الأفقي إلي أقصي حد لأنه سوف يتم فى أغلب الأحوال علي حساب الرقعة الزراعية الراهنة (نظرا لمحدودية الموارد المائية)، وإذا اقتضه الضرورة يجب أن يكون باستخدام المياه المعاد استخدامها ، وليس باستخدام المياه العذبة.(كفاءة تخصيص الموارد المائية)
– تقليل الفاقد فى الإنتاج الزراعي: تتراوح معدلات الفاقد فى الإنتاج الزراعي بين 10% فى محاصيل الحبوب و 40% فى بعض المحاصيل القابلة للتلف مثل الخضر والفاكهة.، وذلك لسوء معاملات ما بعد الحصاد فو التداول والنقل والتخزين وضعف سلسلة التبريد ، وضعف سلاسل القيمة الزراعية بوجه عام. ويعتبر هذا الفاقد هدرا صريحا للموارد المائية المستخدمة فى الري وغيرها من المدخلات الزراعية. وبافتراض أن نسبة الفاقد تبلغ 10% كمتوسط مرجح للمنتجات الزراعية، فذلك يعني أن الفاقد فى مياه الري يبلغ أكثر من 6 مليارات متر مكعب سنويا (تعادل 10% من مخصصات القطاع الزراعي من المياه ). وتعمل هذه السياسة علي خفض الواردات الغذائية ومن ثم واردات المياه الافتراضية)
– التقليل من تصدير الحاصلات الزراعية فى صورتها الخام وتصنيعها: تصاعدت صادرات الخضر والفاكهة إلي أكثر من 7 ملايين طن فى السنوات الأخيرة، تستهلك نحو 3 مليارات متر مكعب سنويا، هي بمثابة مياه مصدرة للخارج.ولاشك أن هذه سياسة غير مستدامة بالنظر إلي الوضع المائي المستقبلي والدخول إلي مرحلة الشح المائي.والبديل الصحيح فى هذه الحالة هو التحول من الصادرات الزراعية الخام إلي الصادرات الزراعية المصنعة.
دكتور / جمال صيام
أستاذ الاقتصاد الزراعي – كلية الزراعة ، جلمعة القاهرة