مصطفي خلاف يكتب : الملء الرابع للسد الإثيوبى .. أسئلة ومخاوف مشروعة
أكثر من 10 سنوات ونحن نتشبس بحبال الصبرعلى التعنت الإثيوبى .. وفى المقابل نرى ونسمع إصرار من جانب ” أديس أبابا ” على إنتهاج سياسة الأمر الواقع فيما يتعلق بمسألة سد النهضة .. هذا السد الذى تحول إلى ” كابوس” مرعب لمصر والمصريين ، وتؤكد جميع المؤشرات والشواهد على أننا نسير صوب أول بنك للمياه فى العالم ، وهو ما كشفنا عنه بالتفصيل فى كتاب “سد النهضة ..لعبة بنوك المياه فى حوض النيل ” ، فأثيوبيا تخالف كل الأعراف والقوانيين الدولية المتعلقة بمياه الأنهار المشتركة والعابرة للحدود .. وتخطط حاليا لزيادة ارتفاع السد ليصل إلى جوالى 20 متر بهدف تخزين نحو 13 مليار متر مكعب ، يكون إجمالى التخزينات بمراحلها الأربعة فى حدود 30 مليار متر مكعب .
وعلى مدار السنوات الماضية وخلال مفاوضات ” القلق” سواء التى تمت بتنسيق ورعاية من الولايات المتحدة الامريكية أو الإتحاد الإفريقى تصر إثيوبيا على موقفها المتعنت وتروج “عبر إعلامها القوى ومنصات التواصل المختلفة ” إلى أن الحديث عن مياه النيل والحصص كلها أمور تخص ” السيادة ” الإثيوبية .. وهى بذلك “تلتهم ” حقوق دولتى المصب مصر والسودان التى اقرتها اتفاقيات دولية وجرى الإلتزام بها على مدى عقود طويلة ، وتُنفذ كل ذلك بإجراءات أحادية .
على أن السؤال الذى يطرح نفسه .. هو مدى المخاوف التى يمكن أن تترتب على الملئ الرابع لسد النهضة وتأثير ذلك على الحياة فى مصر ؟ مع الوضع فى الإعتبار أن هذا الملئ جرى تنفيذه على مدار 3 مرات سابقة
اللافت للنظر أنه برغم انشاء أثيوبيا لهذا السد ” المسعور” وقيامها بعمليات الملئ لثلاث مرات متتالية لم تتأثر حصة مصر من المياه بشكل مباشر أو يقل تدفق وسريان النهر حتى وصوله للسد العالى .. غير أن استعدادت أثيوبيا للملء الرابع – وهو ما تظهره صور الأقمار الصناعية – تتزامن مع تصريحات حادة وقوية من جانب مصر ، وبرزت بشكل أوضح خلال لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى مع رئيس وزراء الدنمارك ميتا فريدركسن الاسبوع الماضى ، حيث قال إن “مصر الدولة الأكثر جفافا في العالم، وليس لديها فرصة لتحمل أى نقص من المياه في أي وقت من الأوقات”، وأشار الرئيس إلى أن مصر “بذلت 10 سنوات من الجهد والحرص من جانبنا لإيجاد حل مناسب من خلال التفاوض، ونتفهم التنمية فى إثيوبيا ونقول ذلك فى كل مناسبة، ومستعدون للتعاون معهم في ألا يؤثر على المواطن المصري بأي شكل من الأشكال”.
وأتبع تصريحات الرئيس السيسي حديث آخر لوزير الخارجية سامح شكرى، الذي أكد قبل أيام قليلة خلال لقاء مع نظيره الكيني، “تمسك مصر بضرورة التوصل لاتفاق قانوني ملزم لقواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي”، ومشددا على أن “الدولة المصرية ستدافع عن مصالح شعبها وستتخذ من الإجراءات ما يقود إلى ذلك”.
ولعل ما أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال لقاءه مع رئيس وزراء الدنمارك يذكرنا بتصريحه الشهير في مارس 2021، قبل الملء الثاني للسد، حيث حذر وقتها قائلا أنه “لا يمكن لأحدٍ أن يأخذ قطرة ماءٍ واحدة من مصر”، مضيفا : “اللي عايز يجرب، يجرب”، ثم وقَعَت مصر والسودان اتفاقا عسكرياً في الشهر ذاته، بعد زيارة وزير الدفاع المصري للخرطوم. وفي يونيو، سعى البلدان إلى ممارسة الضغط على أديس أبابا عندما أجريا مناوراتٍ عسكرية واسعة النطاق لـ”حماة النيل” بالقرب من حدودها.
وفي وقتٍ لاحق، قرَّرا رفع النزاع إلى مجلس الأمن، في محاولةٍ منهما لإيجاد مخرجٍ من المأزق الراهن. ورأت إثيوبيا في القرار خطوةً لإفشال وساطة الاتحاد الإفريقي المستمرة منذ عام، لكن كل تلك الخطوات لم تمنع إثيوبيا من المضي قدما وتنفيذ الملء الثاني، ثم تكرر الأمر في صيف 2022 وتم تنفيذ الملء الثالث.
غطرسة أثيوبية مستمرة :
من جانبها واصلت الحكومة الأثيوبية غطرستها وأكدت مضيها قدما في استكمال بناء السد، ودعت إلى حل الخلاف داخل البيت الإفريقي. وقال المتحدث باسم الخارجية ميليس إلم، إنّ نهر النيل إفريقي، ويجب حلّ الخلافات بشأنه في البيت الإفريقي، مطالباً بوقف إحالة ملف سدّ النهضة إلى مجلس الأمن الدولي أو جامعة الدول العربية ( كان مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، قد أصدر الأسبوع قبل الماضى، قرارا بشأن سد النهضة بالإجماع، يدعو أديس أبابا إلى إبداء المرونة في القضية، فضلاً عن طرح الأزمة كبند دائم على جدول أعمال مجلس الجامعة. ).
تصريحات أديس أبابا أقل ما توصف به أنها غريبة ومتناقضة وتسير على نفس الخطى السابقة التى تهدف فقط إلى كسب المزيد من الوقت ، فلو كانت النوايا صادقة لتم ترجمة ذلك فى الاجتماعات المتعاقبة ، ولما انسحبت أديس ابابا من المفاوضات التى كانت ترعاها الولايات المتحدة والرئيس السابق دونالد ترامب “شخصيا” ، ثم ظهر هذا النهج فى جلسات ” الخزلان والاستعلاء ” الأخرى التى اعقبت ذلك .
على مصر الضغط وبكل الوسائل والطرق لإجبار أديس أبابا على الجلوس على مائدة المفاوضات وتوقيع اتفاق قانونى يحمى ويضمن حقوقها فى مياه النيل .. ايضا على الحكومة المصرية استخدام اوراق أخرى لها تأثير فى دوائر صنع القرار الإثيوبى ونعنى بها كل من الصين وحتى إسرائيل على اعتبار أن هاتين الدولتين من أكبر الدول صاحب الاستثمار والتواجد هناك .. بجانب تأثير دول عربية اخرى مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة . مع الوضع فى الاعتبار تأثير دول حوض النيل التى شهدت مؤخرا جولات واتفاقيات تعاون فى مجالات المياه والتجارة مع مصر .
مياه النيل والضغط على مصر
ولا يخفى أن قضية مياه النيل كانت مثارة وعلى الدوام ، فهى أحد أدوات الضغط على مصر التى كانت تحركها اعتبارات سياسية خلال فترة الحرب الباردة واعتبارات اقتصادية فى الفترة التى تلت نهاية هذه الحرب والتى تميزت بعولمة الاقتصاد والرغبة فى فتح جبهات جديدة للاستثمار .. وقد استطاعت مصر خلال الحرب الباردة أن تجابه هذه الضغوط باقتدار وأن تحافظ على أمنها بفضل تبنيها لسيلسة مائية رشيدة بنتها على أسس فنية راسخة ودعمتها بسيساة خارجية – ديناميكية – أما فى فترة ما بعد الحرب الباردة فإن مصر لا يبدو وأنها قد وجدت طريقها بعد لمجابهة ما جاءت به هذه الفترة من تحديات أو التزامات
وانشاء مثل هذا السد عند منابع النيل سوف يكون له آثار جانبية ضارة فمنع وصول الطمى إلى مصر والسودان سيتسبب فى تعرضهما لاخطار كبرى ، فحجز الطمى سيغير من نظام النهر وسيطلق جزءا من طاقته التى كان يصرفها فى حملة فتزيد قدرته على النحر سواء على جانبيه أو لتعميق مجراه مما سيجعله نهر صعب المراس ستحتاج حماية جسوره والأراضى التى تحفه والمنشآت المقامة عليه إلى أكبر الجهد وأعظم التكلفة
والمؤكد أن مشروع سد النهضة وربما مشروعات مائية أخرى سيتم اقامتها مستقبلا بإمتداد نهر النيل فى ظل غياب اطار قانونى قوى وفاعل وملزم لجميع الأطراف سيكون لها تأثير واضح وكبير على هيكل الانتاج الزراعى فى مصر وعلى مشروعات التوسع الأفقى والخطط الخاصة بالاستصلاح والزراعة ، كما سيمتد التأثير ليشمل زيادة الاعتماد على الواردات الغذائية لسد احتياجات المواطنيين وتقليص الصناعات التى تعتمد فى انتاجها على استخدامات المياه بكميات عالية ، وجميعها تبعات لمسألة الشح المائى الذى أصبح واقعا وكابوسا يهدد المصريين .
وعلى الدولة المصرية وقيادتها السياسية أن تنتبه جيدا ليس فقط بالحرص والسعى على التوصل لاتفاق يضمن عدم تأثير سد النهضة على موارد مصر المائية ، ولكن أيضا اليقظة التامة لأى محاولات قد يترتب عليها انشاء سدود اخرى أشارت اليها دراسات وبحوث مختلفة بينها دراسة لمكتب استصلاح الأراضى بالحكومة الأمريكية فيما بين سنة 1959 و1964 والذى تضمن قائمة لانشاء 33 سدا مختلف الأغراض سواء للرى أو الكهرباء ، مع الوضع فى الاعتبار توصيات هذه الدراسة الخاصة بالبدء فى انشاء مشروعات السدود الكبيرة على النيل الأزرق خلال القرن الواحد والعشرين ..وفى حال استكمال كل المشروعات المقترحة فإن اثيوبيا ستستطيع أن تقتطع حوالى 6 مليارات متر مكعب من النيل الأزرق و5 مليار مترمكعب من العطبرة و1.5 مليار متر مكعب من السوباط
سد النهضة ..معلومات مهمة
يُشار إلى أن سد النهضة تبلغ تكلفته 4.8 مليار دولار، يمتد على مجرى النيل على بُعدِ أميالٍ قليلة من حدود السودان. وبمجرد امتلاء خزان السد، سوف تُنشأ بحيرة اصطناعية من 74 مليار متر مكعب من المياه، ويهدف ضغط المياه إلى تشغيل 16 توربينا، وتخطِّط إثيوبيا لتوليد 6 آلاف ميجاوات من الكهرباء من خلال هذه التوربينات.. وهذا السد هو أكبر مشروعٍ للطاقة الكهرومائية في إفريقيا.
مصدر القلق يتركز على أنه إذا تزامنت مرحلة تعبئة خزان السد الإثيوبي مع فترة جفاف شديد في النيل الأزرق بإثيوبيا، على غرار ما حدث في 1979 و1987، فلابد من تمديد فترة الملء للحفاظ على منسوب المياه في السد العالي بأسوان من التراجع إلى أقل من 165 متراً.
والمعلومة الرئيسية في هذا السياق هي أن النيل الأزرق، وهو الرافد الرئيسي لنهر النيل والذي شيدت إثيوبيا سدها عليه، يمر بثلاث دورات كل 20 عاماً، تعرف الأولى منها بالسبع السمان إذ يكون هطول الأمطار غزيراً، والثانية تكون نسبة هطول الأمطار متوسطة، وتبلغ ست سنوات، أما الدورة الثالثة فهي السبع العجاف، التي تنخفض فيها نسبة تدفق المياه في نهر النيل بصورة لافتة.
سنوات الجفاف .. مخاوف مشروعة
بحسب خبراء المياه، تبلغ تدفقات مياه الأمطار في النيل الأزرق متوسط 50 مليار متر مكعب سنوياً، ترتفع إلى 80-100 مليار متر مكعب في سنوات الأمطار الغزيرة أو الفيضان الغزير.
أما في سنوات الفيضان الشحيح، فإن تدفقات النيل الأزرق تنخفض إلى نحو 25 مليار متر مكعب فقط، والنيل الأزرق عبارة عن نهر موسمي تتدفق المياه فيه من شهر يونيو حتى شهر يناير سنوياً، وخلال تلك السنوات تعتمد مصر على المياه القادمة من النيل الأبيض والمياه القليلة القادمة من النهرين الآخرين في إثيوبيا، وهما نهري عطبرة والسوباط.
وشهد تدفق النيل الأزرق انخفاضاً لمدة 7 سنوات عجاف، خلال الفترة من 1980 حتى 1987، وبما أن دورة النيل الأزرق تمتد إلى عشرين عاماً منها 7 سمان و7 عجاف و6 متوسطة، فإن أهم ما تريده مصر هو أن يكون هناك اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا؛ حتى تتفادى دولتا المصب، مصر والسودان، إقدام إثيوبيا على احتجاز كميات من المياه خلال السنوات العجاف والمتوسطة تؤثر على التدفق الطبيعي للمياه في نهر النيل.
وفي هذا السياق، من الطبيعي طرح تساؤلات هامة من قبيل: كيف تعاملت مصر من قبل مع السنوات العجاف؟ وما الذي يخشاه المصريون الآن من سد النهضة الإثيوبي؟
بالنسبة للسؤال الأول، حدثت الأزمة خلال سبع سنوات (1980 إلى عام 1987)، حيث انخفض تدفق النيل الأزرق في تلك الفترة إلى مستوى تدفق السنوات العجاف والذي يقدر بنحو 20 إلى 25 مليار متر مكعب، وهو ما انعكس على تدفق المياه لنهر النيل، إلا أن السد العالي حد من تعرض مصر لأزمة كبيرة إثر انخفاض تدفق المياه من النيل الأزرق.
فإنه خلال السنوات العجاف في الثمانينيات من القرن الماضي، كان مخزون المياه في بحيرة ناصر، خلف السد العالي، يبلغ 133 مليار متر مكعب بارتفاع أكثر من 177 متراً، وانخفض هذا المنسوب إلى نحو 37 مليار متر مكعب فقط عام 1988، وذلك قبل بدء الفيضان في يوليو من ذلك العام.
وبحسب خبراء المياه، فإن التخزين في بحيرة ناصر حتى منسوب 147 متراً يوازي نحو 31.6 متر مكعب من المياه، وهو ما يعتبر “تخزيناً ميتاً” مخصصاً لاستيعاب ترسيب الطمي في البحيرة على مدى 50 عام منذ إنشاء السد العالي، وهو ما يعني وصول المخزون الحى للبحيرة إلى نحو 5.4 مليار متر مكعب، قبل أن يأتي الفيضان العالي الذي حدث في صيف العام 1988، ومعه رفع منسوب بحيرة ناصر إلى نحو 168 مترا توازي مخزونا قدره 89.2 مليار متر مكعب، منها 31 مليار متر مكعب مخزوناً ميتاً، ليبقى نحو 58.2 مليار متر مكعب مخزوناً حياً.
كلمة السر إذاً في الخلاف مع إثيوبيا هي “سنوات الجفاف”، فماذا سيحدث عندما يكون هناك فيضان شحيح؟ رفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق قانوني يلزمها بمشاركة اتخاذ القرار بشأن تعبئة وتشغيل سد النهضة مع دولتي المصب يشير بوضوح إلى سوء نية يستحيل إنكاره رغم أن أديس أبابا تصرح بالعكس..
الخلاصة تكمن فى كيفية تعاطى مصر مع ما أوجد هذا السد ” المسعور” من تحديات ومخاطر تهدد مصر ومستقبلها ووجودها وأفضل الخيارات للتعامل مع غطرية أديس أبابا .
كاتب صحفى مصري – متخصص فى الشأن الاقتصادى وشئون الزراعة والمياه