مجدى حسين يكتب : استقرار الحالة النفسية.. أو السكنية ( رسائل الإيمان)
الإيمان غاية ووسيلة، فإذا كان الإيمان بالله غايتنا، وتمحور الحياة حول الله عز وجل، هو هدف المؤمن المنشود، فإن الإيمان فى ذات الوقت وسيلة لسعادته. وأنت كلما تصورت أنك تحب الله إلى أقصى مدى، وجدت نفسك فى معارج التقوى والعبادة والإخلاص لله، أشد حبا لله.
قد يتصور أحد أن استطالة مدة السجن تزيد المسجون فى سبيل الله ألما، والواقع عكس ذلك تماما، فكلما طال عليك الأمد ازدادت الحالة النفسية لك استقرارا، وازداد شعورك بالسكينة، وكلما ازددت تقربا إلى الله، كلما ازددت حبا له. والعجيب أن هذه السكينة تكون تكيفا روحيا وماديا فى آن معا، فأنت تتنفس بعمق أكبر وراحة أشد وتشعر بأن حالتك الصحية المادية أفضل, وقد ذكرتنى هذه الحالة بفيلم تسجيلى رائع عن تسلق أعلى قمم الجبال فى العالم (قمة إفرست بجبال الهيمالايا) حيث أوضح أن المتسلقين بعد صعود 15 ألف قدم لابد أن يخيموا لعدة أسابيع قبل مواصلة الصعود.
للتكيف مع نقص الأوكسجين، وخلال هذه الأسابيع يزيد عدد كرات الدم الحمراء فى الدم فيصبح المتسلق أكثر قدرة على التقاط الأوكسجين! سبحان الله العظيم. وقد روى لى يوما أحد المساجين أن التهوية عندما تكون سيئة فى الزنازين فإن شعر الأذن ينمو بصورة أكبر ليحمى الأذن من الأتربة!
إذن فحالة التكيف والاستقرار النفسى تتحول أيضا إلى حالة استقرار بدنى، وهذا هو سبب استمرار كثير من المساجين وغير المساجين فى الحياة بصورة معقولة رغم طول تعرضهم لظروف بيئية سيئة.
وأنا لا أستهدف القيام بدعاية مجانية للسجن الانفرادى أو غير الانفرادى، فمواجهة تحديات الحياة خارج السجون أصعب وأكثر تعقيدا، وهناك فرص لا تحصى للتقرب إلى الله شريطة الانتباه لعدم الغرق فى تفاصيل الحياة الدنيا التى لا تنتهى. بإمكانك أن تحول يومك كله إلى عبادة لله سبحانه وتعالى، فتحقق أعلى درجات ممكنة لاختبار الآخرة، ولكنك فى ذات الوقت ستكون أكثر سعادة بمعنى الرضا والسكينة والانسجام النفسى. كيف تكون العبادة 24 ساعة (عدا ساعات النوم)؟ حياتك ما هى إلا سلسلة من القرارات المتوالية، وأنت تتخذ فى اليوم عشرات أو مئات القرارات، وكلما اتخذت قرارا توخيت فيه الالتزام بمرضاة الله، فأنت تنتقل من سكينة إلى سكينة، وأنت وحدك الذى يمكن أن تراقب نفسك، فالمسألة مسألة نية، والنية كلها محلها القلب. والله وحده كما وصف نفسه (عليم بذات الصدور)، وأنت لا تريد أن ترضى أحدا غيره. ولذلك ستراعى انطباق قراراتك اليومية مع أوامر الله ونواهيه. طبعا من الممكن أن يجانبك الصواب فى بعض قراراتك، بل سيحدث ذلك حتما، وليس هذا هو المهم، المهم هو النية الخالصة لله.
ولأنها أيضا ستساعدك على تصويب هذه القرارات الخاطئة، عندما تكتشف ذلك بنفسك، أو من خلال صديق أو من خلال الأيام وهى أكبر معلم! وستساعدك هذه النية الخالصة لله أن تعترف بالخطأ على الأقل بينك وبين نفسك، بحيث تمتنع عن التكرار فى الوقوع فى الخطأ وقد يتعجب أحد فيقول: ما هى عشرات ومئات القرارات التى تتخذ يوميا؟! وعلى سبيل المثال وبعد العبادات اليومية من وضوء وصلوات. وهل تصلى فردا أو جماعة! فى البيت أو المسجد؟ فى الوقت أو بعد الوقت؟! فالقرارات الأخرى لا تعد ولا تحصى.. هل تذهب إلى العمل فى الموعد المضبوط؟ هل تذهب فى مواعيدك الشخصية فى الموعد؟ هل تعتذر عن تأخيرك أو غيابك عن الموعد؟ كيف تتعامل مع زوجك أو أبنائك، هل تعدل بينهم؟ والطالب فى الدراسة قراراته كثيرة ومعروفة بمدى التزامه بالدرس والتحصيل والواجبات.
ستجد فى القرآن الكريم وحده العديد من القواعد والآداب التى تساعدك فى اتخاذ القرارات السليمة: كالاستئذان فى دخول البيوت – والأكل عند الأقارب – دخول الأبناء على الوالدين ومواعيد ذلك – المناداة من خلف الحجرات (المناداة من الشارع الآن!) – رد السلام – غض البصر.. إلخ, فإذا أضفنا السنة النبوية المؤكدة سيتضح لنا أن هناك أمورا عديدة فى حياتنا اليومية لها قواعد ثابتة، وبالتالى يمكن القياس عليها.
وبالتالى فإن العلاقة مع الله سبحانه وتعالى يمكن أن تتواصل طوال الليل والنهار، مع ملاحظة أن يتم ذلك بدون تفاخر أو منظرة أو إدعاء الأستاذية، فالأساس أن يؤثر المؤمن فى غيره بالقدوة، أقول ذلك بسبب بعض الممارسات المنفرة التى يقع فيها بعض المنتمين للتيار الإسلامى، والتى تنتمى إلى الكبر (بكسر الكاف) ولا تنتمى إلى التقوى.
وكل ما تنطق به طوال اليوم من كلام وأحاديث هو سلسلة متواصلة من القرارات، فاللسان سبب كثير من المصائب (وهل يكب الناس على وجوههم فى النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم) حديث. وبالتالى فإن تقوى الله تحتاج لمراقبة للنفس ويقظة دائمة وهى مسألة تحتاج لتدريب بين المرء نفسه.
وربما يكون التأمل جلوسا قبل الصلاة أو بعدها فرصة لمراجعة النفس خمس مرات على الأقل يوميا. وهذا هو المعنى الأعمق للتقوى والمتقين.
ولكن اللطيف فى كل ذلك، أنك إذا بدأت هذه الممارسة خوفا من الله وطمعا فى الآخرة، فإنك ستتحول إلى إنسان سعيد تدريجيا، يشعر أنه ينتزع السعادة من أشواك هذه الدنيا القصيرة الفانية، وأنه أكثر استمتاعا بالحياة، وقد أمتلك الكنز الأثمن: السكينة. ولعلها أكثر دقة من السعادة، لأن الفهم الشائع للسعادة أنها حالة من الحبور المستمر والمتواصل، وهذا لا يستقيم مع أحوال الدنيا المليئة بالمتاعب والمصاعب.
وأيضا يخطىء بعض المتدينين عندما يتصورون أن هذه الحالة من السكينة تعنى القبول بالقهر والظلم والتنكب عن طريق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والهروب من مشكلات (المجتمع العامة) والاعتصام فى كهف فردى أو أسرى، على خلاف حديث رسول الله (من لم يهتم للمسلمين فليس منهم).
سجن المرج – 2009
نشرت هذه الرسائل فى كتاب بعنوان : الايمان غاية ووسيلة – 2011 – دار الفكر العربى