مجدى حسين يكتب : أسرار الدعاء ( رسائل الإيمان)
نحن نقترب حثيثا من شهر رمضان، وهو شهر الدعاء وشهر مناجاة الله، وإياك أن تنخدع من العنوان فتتصور أنه بإمكانى أو غيرى أن يكشف أسرار الدعاء, ولكننا نحوم حولها ونحاول الاقتراب من بعض معانيها، فنحن هنا فى لب الإيمان، فى مخ العبادة، فى العلاقة الخاصة بين المؤمن وربه, والتى لا يعرف وتيرتها الخاصة إلا الله عز وجل.
فى القرآن الكريم أتوقف كثيرا عند حرقة الدعاء وحرارته لدى الرسل والأنبياء، فنوح يدعو ربه :(رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26 – 27).
وموسى دعا ربه: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس: 88).
وروى عن سيدنا محمد أنه رفع يديه إلى السماء يوم بدر وقال: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض) حتى سقط الرداء عن منكبيه.
فهل الله سبحانه وتعالى راعى معسكر الإيمان حتى لقد نسبه إلى نفسه (حزب الله) لا يعلم كل مخاطر الكفر والشرك؟ بل إن كثيرا من الأدعية المأثورة عن أولياء الله تتضمن القول: (إنه لا يخفى عليك، وإننا نعلم أنك تعلم) . هذه نقطة مهمة لأن الملحد يركز عليها ويقول لماذا يسمح الله بالكفر والظلم ؟ بينما الحياة الدنيا قائمة أساسا على فكرة الاختبار وهذا موضوع رسالة أخرى . الدعاء هو مخ العبادة، نحن نتعبد إلى الله بالدعاء إليه، والتذلل إليه، وأن نوقن من خلال الدعاء رويدا رويدا، اننا لا نملك من أمرنا شيئا وأن الله بيده كل شىء (لا حول ولا قوة إلا بالله)، نعم نحن نأخذ بالأسباب ونتدبر الأمور كلها, ولكن النتائج غير مضمونة إطلاقا بدون أمر الله. السر الدينى فى الدعاء هو نفس سر القضاء والقدر الذى تحدثنا عنه من قبل. أن تعمل واجبك على أفضل وجه ممكن وتأخذ بالأسباب، ولكن الواقعة التى ستحدث معروفة سلفا عند الله ومكتوبة عنده.
إن التعامل الأصح مع المعضلة الكبرى أن نعمل بما أمرنا به الله، ولا نحاول أن نفهم شيئا هو فوق قدرات البشر، وقد قرأت – على سبيل المثال – دراسة من ثلاثة مجلدات حول القضاء والقدر, وهى دراسة جادة ورصينة, وكانت شهادة دكتوراه ، ولكنها لم تقربنى من فهم الموضوع أكثر مما كنت قبل قراءتها ! نحن لا نعرف عن المشيئة الإلهية إلا أنها كلية وقادرة على كل شىء ونحن ندعو الله لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60) (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).
ونحن ندعو الله كما ذكرت تأكيدا لمعنى أن الأمر كله بيديه، ونحن نؤكد هذا المعنى فى نفوسنا, وإلا فإن الله غنى عن العالمين.
نحن ندعو الله لأننا من خلال الدعاء نتصل به مباشرة، ونعقد معه اجتماعا خاصا فى أى وقت من أطراف الليل أو أناء النهار، بينما لا تستطيع أن تفعل ذلك مع أى مخلوق بهذا اليسر, سواء أكان أعلى منك أو أدنى فى السلم الاجتماعى, وفى هذا اللقاء تبث لواعج قلبك وتبكى, وتنقل همومك إلى المتصرف فى الكون، تنقل شكواك ومظلمتك وطلبك لأحكم الحاكمين، فتستطيع أن تهدأ بعد ذلك وتواصل حياتك، بما فى ذلك محاولة التصدى لمعضلتك ومشكلتك التى دعوت ربك من أجلها. وإذا بكيت خلال الدعاء فاعلم أن نصف المشكلة قد حلت, لأن البكاء من علامات صدق التواصل، وأن طلبك أصبح مصدقا عليه بأعلى الأختام (دموع الصدق) فدموع الرياء لا تتسلل من العيون وأنت وحدك مع الله فى جوف الليل، أو خلال النهار, بل إن المشكلة كلها قد حلت، فطالما أن الطلب قد وصل إلى أحكم الحاكمين، فما وجه القلق إذن؟! نحن فى الدنيا نخشى من القاضى المرتشى أو الجاهل أو الخاضع لتعليمات الحاكم، وهذا هو وجه القلق الذى يعتريك بعد المرافعة الصادقة التى قمت بها أمام المحكمة، أما أمام محكمة الله عز وجل فلا وجه لهذا الأمر على الإطلاق. وبالتالى فإن دعاء المؤمن الصادق أمامه 3 احتمالات:
1- الاستجابة الفورية أو القريبة, وهذا يحدث كثيرا فى حياة المؤمنين.
2- الاستجابة الفورية أو القريبة، ولكنك لا تعلم أن ذلك قد حدث، وقد تعلم فيما بعد.. مثلا لطالما يدعو المظلومون الله أن ينتقم من الظالمين، وقد تحدث لهم مصائب وهم لا يعلمون .
3- عدم الاستجابة لأن الله يعد لك ما هو أفضل منها.
لا أذكر أننى دعوت يوما على القضاة الذين حبسونى، لأننى كنت أدعو على الظالمين عموما . كنت أدعو الله للخلاص من مجمل النظام الظالم ، ولم أحمل قط أى ضغينة شخصية لأحد من الحكام والمسئولين الذين تسببوا فى إيذائى ، فالقضية كانت دائما بالنسبة لى إصلاح أحوال البلد وإنصاف المظلومين من ابناء الشعب . واعتدت فى السجون أن أقرأ كل يوم سورة الفيل بنية الدعاء إلى الله أن يتدخل لانقاذ البلاد من الحكام الجائرين .
فى إحدى مرات سجنى وجدت القاضى الذى حبسنى فى قضية سابقة محبوس معى ولكن فى قضية مخلة بالشرف، وهو الذى عرفنى بنفسه، فأنا عادة لا أتذكر شكل أو أسماء القضاة الذين حاكمونى لأنهم كثر!! وفى مرة ثانية مات رئيس المحكمة الذى حبسنى وأنا لم أنته بعد من فترة العقوبة التى قررها، ذهب إلى المقابر وكان من المفترض أن يتولى موقع محافظ. ولا أدرى ماذا أصاب الآخرون؟ ولا شك أننى دعوت على من ظلمنى خلال فترة سجنى ولكن بنفس طريقة الدعاء ضد الظلم والظالمين عموما ، فلم أكن يوما فى معركة شخصية مع أحد .
وأنتم ترون الآن أن يوسف والى قد اختفى وهى أقصى عقوبة يمكن أن يحصل عليها فى ظل هذا النظام, بعد أن كان الأمين العام للحزب الحاكم والنائب الأوحد لرئيس الوزراء ووزير الزراعة. وأنا غير مشغول به بعد خروجه من السلطة, ولكن أذكر هذه الأمثلة للشباب كى يكفوا عن اليأس، ويعلموا أن التغيير ممكن بالاعتماد على الله، ففى معاركى ضد وزير الداخلية وضد يوسف والى لم يكن معى إلا الله عز وجل، بدون إنكار لدور كل من شارك معى فى الكتابة ومن قدم لى مستند ، والحزب الذى سمح لى بخوض هذه المعارك بدون قيود . ولطالما تعرضت لتقريع بعض الشخصيات العامة لأننى دخلت فى معارك أكبر من إمكانياتى، ولكن كيف كانت النتيجة؟ تمت إقالة وزير الداخلية، وتم ركن والى، وتمت محاكمة وسجن قيادات وزارة الزراعة.
(اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه.
ومن أسرار الدعاء هذا الحديث الجميل: (من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين) البخارى.
سجن المرج – 2009