أخبارمجتمع الزراعةمقالات

أنور عبد اللطيف يكتب : الإصلاح الزراعى وعشوائيات المدن!

قال لى بجدية الباحثين إن #قوانين_الإصلاح الزراعى التى صدرت فى سبتمبر ١٩٥٢ هى السبب فى عشوائيات المدن والبناء على الارض الزراعية عام ٢٠٢٣!

فابتسمت، فسألنى: ماذا يضحكك؟
فقلت هذا اختزال واستسهال مخل، واستأذنته ان يصبر معى وحتى أحكى له مؤشر الحالة النفسية لـ «#البلاص” فقال لي: اتفضل!
وبدأت مرافعتي ببيت من الزجل الشفاهي الذي كان متداولا في قريتنا : ثلاثة على كوبرى بلدنا شايلين «#البلاليص_أم أحمد ومعزوزة وسنية أم الغريب!
فسالني يعني ايه بلاص؟
فقلت:
«البلاص» إناء من الفخار #صديق_الفلاح يستخدم لحفظ الماء والعسل والجبن القديم والمش، والنوع الردىء منه كان يستخدم فى تزيين واجهات الدور، وكان «#البلاص» اسم #قرية جنوب قنا ومنها جاءت شهرة «القلل القناوى»، لكنهم تضايقوا من الاسم عند تحول الناس للزراعة بعد ثورة يوليو وصدور قوانين الاصلاح الزراعى واستأذنوا الرئيس جمال عبدالناصر تسمية قريتهم #منشية_ناصر، فضحك الرئيس واقترح تسميتها المحروسة_
فرحبوا بالاسم الجديد، لكن بعد سنوات لم تعد الزراعة فى القرى مهنة محروسة، ولا الفلاح هو الديكتاتورية الوحيدة كما وصفه الرئيس السادات واكتشفوا أن الاسم وحده لا يكفى لحياة كريمة، مالم يصحبه تطوير حياة السكان والمبانى ومصدر الدخل،

عكس ماحدث فى قريتنا بهى الدين في. ريف ميت غمر فقد غنوا «للبلاص» وحاملاته وهو يلمع فى حر بؤونة في الطريق الى الغيط متشبعا بالماء الساقع، وحاملات «البلاليص» إحداهن كانت ذاهبة لأنفار جمع القطن، والثانية ذاهبة لأنفار شتل الأرز، والثالثة لأنفار جمع الطماطم، بعد أن كان «البلاص» قبل الاصلاح الزراعى أداة تستخدمها الفلاحة لتهريب كناسة جرن القمح أو سنابل الأرز المدفوس في الشقوق أو تملأه الفلاحة بالقطن من ارضها الذى كان محرما على بيتها عمل لحاف منه أو مخدة، وكان شيخ الخفر في الحصاد يشن حملات بعصاه على حاملات «البلاليص»، ومن يضبطها متلبسة بهذه الجريمة تمنع بهائم الاسرة من الخروج للغيط وتطرد واسرتها من القرية، لكن بعد صدور قوانين الإصلاح، عاد «البلاص» لوظيفته الطبيعية فوق رأس الفلاحة، زينة لقوامها الممشوق ومعبرا عن سعادتها وهي تقدم الميه بدلال يروى العطشان، ويطفى نــــار الحيران، فيشرب حاصدو القمح وشاتلو الأرز وجامعو القطن، ويورد الفلاحون خيرات زراعتهم الى الدولة!

فلم يكن قانون الإصلاح الزراعى مجرد توزيع ٣٧٠ الف فدان على نحو ١٠٠ ألف فلاح من المعدمين والمستأجرين في مصر كلها بمقدار فدانين ونصف للأسرة، لكنه تعبير عن عودة الفلاح المصرى إلى تاريخه وإنسانيته ونشاطه الذى سجلته جدران المعابد خلف محراثه وماشيته وشادوفه ويحصد قمحه وقطنه ويدور النورج، ويذرى الشعير والارز، ولم يكن حال الفلاح المصرى قبل عدالة قانون الاصلاح الزراعى فى حاجة لاستدعاء الإقطاع من التاريخ الأوروبى فى العصور الوسطى لإثبات المظلومية، فكان الباشا الإقطاعى يملك الأرض والتملية والاقنان الذين يعملون عليها بالسخرة، وكان مصدر دخل الفلاحين النقدى هو الخروج للترحيلة، يودع الاهالى شاحناتهم بالبكاء، فربما يموت ابنهم غريبا من المرض والجوع فى شق الترع وتبطين القنوات وبناء الجسور وتكسير الصخور فى محاجر الصحراء،

حتى جاء هذا القانون الى قريتنا سنة ١٩٦٢ الذى يعتبر الثورة الأولى فى العدالة الاجتماعية منذ أيام الفراعنة، لينقذ الفئات المطحونة من المزارعين والأجراء، فعادوا يستمتعون بالحرية والحياة، وعشت العصر الذهبى للفلاح من سنة ١٩٦٣ حتى ١٩٧٨ حيث كانت الأرض مقدسة مثل العرض ممنوع البناء عليها، وأعيد تخطيط القرى بكردون المنافع، فعرف الفلاح بناء الدور الثانى والثالث وحظيرة مخصوصة للماشية، كما عرف الهجرة الى مديرية التحرير وأبيس والنوبارية وعرفنا الدورة الزراعية، حيث كان القطن والقمح والأرز إجباريا وكانت محاصيل مربحة للفلاح والدولة، وشاهدنا الطائرات وهى ترش القطن طويل التيلة الذى كانت تفرض الدولة زراعته بالحوض والزمام بما فيه ارض الإصلاح أو التعاون أو ارض الوسية

، اما كلام الباحثين عن تفتيت الارض فقد حدث بالفعل عندما غاب التخطيط التنموى، وأهملت الدولة التركيب المحصولى وصار الاستيراد أرخص من زراعة القطن والقمح، واللحوم المجمدة ارخص من اقتناء الطيور والأعلاف وضاعت بذور القطن طويل التيلة فتوقفت مصانعه وبيعت خردة مع اراضى الدولة بـ «طناش» المحليات فى اثناء الحملات الانتخابية للحزب الوطنى، وتحول نحو 80% من الفلاحين للعمل بصفة مؤقتة أو دائمة عند الغير أو فى وظائف اخرى أو التجارة أو الخدمات خارج أرضهم، وأهملت مبادرات التوسع فى سيناء والمدن الجديدة والظهير الصحراوى للمحافظات، ودفنت البيروقراطية حلولا جيدة مثل ممر العالم فاروق الباز للتنمية المطروح من التسعينات،

وغابت الرؤية لاستيعاب وتنظيم الزيادة السكانية وفائض التعليم المجانى، ومن حسن الحظ ان انتبهت الدولة بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٤ الى ماساة الريف، حين بدأت الثورة الثانية لتحديث القرية المصرية، بانطلاق «حياة كريمة» فى ٢٠٢٢، لتحسين أحوال ٦٠ مليون مصرى يسكنون الريف ووقف العشوائيات والعدوان على الاراضى الزراعية مع فتح الأفق والفرص امام الشباب فى المدن والمجتمعات الجديدة.

وفى نهاية المرافعة سألته: على استوعبت مؤشر البلاص وهل مازلت مقتنعا بان الإصلاح الزراعى هو السبب مباشرة فى عشوائيات القاهرة؟
فصمت ثم ابتسم وقال : السكوت علامة الرضا!


نقلا عن الأهرام





زر الذهاب إلى الأعلى